ليس مُدهشاً أن يجتمع كل هؤلاء ليرتشفوا بعضاً من روح فاطمة المرنيسي المنثورة في هواء المدينة بعد مضي عام على غيابها. هنا في الرباط نلتقي، في جامعتها العريقة، جامعة محمد الخامس، وتحديداً في كلية آدابها وعلومها الإنسانية، حيث جاءت وراحت أجيال من المفكرين والمثقفين المغاربة الملتزمين. هنا صار يجلس طيف فاطمة على كرسي الدراسات الذي تم إشهاره تحت اسمها، وحوله التف زوار وقادمون كثر، يتسع طيفهم: من قارات عدة، ودول كثيرة، ومدن متباعدة، وجامعات عرفت قاعات صفوفها فاطمة وأفكارها، إلى بوادي المهمشين وأريافهم واحيائهم من الزاكورة في جنوب شرق البلاد وحي كريمة في سلا إلى أرياف المغرب المنسية. ارتفعت كل القبعات تقديراً للمبادرة ومن وراءها والرجلين اللذين اشتغلا عليها طويلاً إلى أن توسد الكرسي هضبة الأطلسي: إدريس كسيكس مدير معهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية هنا، والمختار الهراس أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، اسمان لامعان في سماء الرباط وسماء فاطمة. واحد من جوانب إبداع فاطمة المرنيسي أنها انتقلت من نصوص النظريات إلى شوارع الأحياء الشعبية، إلى النساء الأميات، إلى أولاد الشوارع، إلى الفتيات البسيطات ينسجن السجاد وراء الأنوال البسيطة، ومن هناك صارت تكتب وتنشط اجتماعياً. لم تتأبد في أسر النظريات، تحررت منها، وذهب في الاتجاه المعاكس، إلى الناس الذين تظل حركتهم تنتج أفكاراً ونظريات جديدة لا تنتهي وتبطل نظريات قديمة. إن عدد البعض نظريات المرنيسي وأفكاره، فإن البعض الأكثر معرفة بفاطمة يضيفون إلى ذلك «ناس المرنيسي» أيضاً: يضيفون محمد بنور الذي بسطت فاطمة يدها له وانتشلت منه فنانا تشكيلياً صار ذائع الصيت، وكريم سائقها المخلص الذي صار معروفاً لدى كل أصدقائها العالميين قبل المحليين، وأحمدو الترزي، والعربي، والنساء اللواتي يصنعن أحذية البلاستيك ويبعنها على أرصفة حي كريمة الشعبي وقوائم لا تنتهي من الناس العاديين الذين خلدتهم فاطمة في حياتها ونصوصها.
بعد أول لقاء لي معها منذ أكثر من 13 عاماً طوينا الأوراق وأخذتني في زيارة سحرية إلى القلب العتيق والجميل للرباط. قالت إن الذي لم يزر «حي الوداية» على الهضبة المطلة على الأطلسي، لا يعرف الرباط ولم يزرها. الذي لم تمتلئ رئتاه من هوائها الثمل برائحة بحر الأسرار وأريج السحر المبثوث في أزقتها، لم يزر المغرب. الذي لم يشرب أتاي «الوداية» يخسر حتمية العودة إليها، ولا يخضر قلبه ولا سنوات حياته المقبلة.
كنا هبطنا من «الوداية» للتو بعدما أدينا طقوس التعميد بأتايه الأخضر في المقهى الشهير المطل على الماء الممدود حتى الشمس. يستظل الناس بعتق بيوتها الأندلسية المذاق والأفنية، إذ تتجاور وتتعلق على سفوح المنحدر الصخري الواقع عليه الحي، تهزأ بالأزمان والجدران المتهالكة وكل قوانين الحياة. الأزقة الضيقة تبدأ من حيث لا بداية، وتنتهي إلى حيث لا نهاية، لكنها تدور بالزائرين دوران صوفي يهيم بنشيد توحد ملغز. نخرج من البوابة الكبيرة وننظر إلى المدينة الحديثة لكأننا نخرج من عالم السحر إلى الرتابة، فنريد أن نعود.
نلتقي فاطمة خارج الحي، تتلقفنا بالترحاب والعناق وسيل الأسئلة عن الصحة والناس والأحباب. نفقه بعض ما نفقه من الدارجة «الفاسية» تدرج سريعة على لسان فاطمة كطفل شارد على شاطئ «الوداية» يركض في كل الاتجاهات. نمشي جميعاً. هي تتهادى أمامنا كالريح على مدخل «سويقة القناصلة» في سفح «الوداية». «القناصلة» مفصول، بأسىً، عن «الوداية» بشارع أسفلتي سمج يحاذي البحر.
تسير فاطمة المرنيسي بقامتها الطويلة وتنشر ابتسامتها في المكان. تلقي جسدها العريض المتفاخر تحت تنويعة الملابس المغربية الريفية بألوانها الصارخة في ضيق الأزقة فتتسع الأزقة وتنفرج الطرقات. تتلاحق رنات القلائد والحلوق والخلاخيل التي تلبسها، كأنما ملكات المغرب يستيقظن من قديم الزمان ويقمن الآن يستحممن في عين الشمس وعين البحر... وفي عيوننا كلنا. لحظتها تختال أندلسيات حسان صرن ينقرن الدفوف على أنغام الوتر الزريابي الخامس. يتمايل الناس مع تمايل مشيتها، تروح الأزقة وتجيء كأنما تدندن لحناً جاء من القدم القديم. تقول فاطمة: «سر بسير زمانك تسير». نسير خلفها، لكن بسيرِ غير سير زماننا.
لا تلقي تحية عابرة على «العربي»، حارس موقف السيارات المغبر على مدخل «القناصلة»، بل تتوقف عنده ومعه لتسأله عن حاله وحال زوجته وأولاده. يتهلل وجه «العربي» وتتلاحق على لسانه «الحمد للاهات» والدعوات غير المكتملات. تعرفه، تقول، منذ 30 سنة. من عمر طويل وهو يحجز «بلاصة» لسيارتها قبل أن تصل عندما تريد زيارة السوق. صار «العربي» مدخل السوق وتحيته الابتدائية لكل الداخلين. وصار «العربي» مخرج السوق وتحيته الوداعية لكل الخارجين.
يشرق وجهها بالتاريخ والجغرافيا إذ تدلف «السويقة»، ونحن خلفها، نغيب وسط زحمة الناس في «القناصلة» حيث تتشابك الأزقة كما أحجية. تتدلى القلائد والفضيات والخواتم على جوانب بوابات الدكاكين. تتعلق في هواء الأزقة روائح الزعفران والتوابل. تتيه في كل الجنبات مغربيات ومغاربة في أثواب طويلة ملونة، وطاقيات معقوفة إلى الخلف. فاطمة تتحول للتو إلى شيء غامض من الحي ذاته، تذوب أمامنا، تتلاشى في عبق السوق وأصواته وقلائده وحركة البائعين الفوارة فيه. تصير طيفاً يطير، يحلِّق فوق رؤوس الناس الذين تغص بهم أزقة «القناصلة». تطير برقاً يختفي في مدخل زقاق ملتو هنا، ثم تظهر في مخرج آخر هناك. تغيب في رمشة عين من أمام دكان قريب أمام أعيننا هنا، ثم تتبدى في قلب دكان بعيد هناك في الرمشة الثانية.
هنا السحر يصبح الحقيقة الوحيدة. فاطمة تطير تطير، ونحن من خلفها تدهمنا شهوة الطيران: نشعر بخفة أقدامنا على الأرض. نكاد نطير خلفها، يمسنا السحر نحن أيضاً. عبد المعطي، ابن القدس القديمة، يقسم لها إنه الآن في القدس ذاتها، فهنا وهناك طعم السحر ذاته، وعبق الأزقة وألغازها وأولادها ذاتهم. يقول لها: أأنا في «باب مغاربة» القدس أم هنا أنا. تضحك فاطمة وترد: «أنت مسحور»!
نضيع خلفها، نلحقها، ندلف حانوتاً للفضيات والأسوار والحجب المكتوبة. ندركها تحادث ثلاث فتيات في مطلع الأنوثة والإغواء.
نقف على مسافة عناق نتغامز ونتابعها تشرح لهن عن كتابات فوق قلادات لبسنها. تهف قلوبنا لابتسامات الفتيات الخجولة ونظرات عيونهن المراهقة مع فاطمة. فاطمة صارت مراهقة هي الأخرى، قصفت عقوداً من عمرها في رمشة عين ثالثة، وصارت منهن. أنهت حديثها الضاحك معهن وجاءت إلينا، تسبقها ضحكة بريئة لعوب، وقالت: الحقوني. لحقناها. قالت إنها شرحت لهن سر تلك القلادات وإنه إن لبست إحداهن قلادة منها ثم رأت من يشتهيه قلبها وأرادت غرس سهم الحب في فؤاده، فإن عليها أن تداعب تلك القلادة بدلال وهي تنظر في عيون الشاب المشتهى. عندها يقع الشاب في حبها على الفور. وعلى الفور أيضاً اشترت الفتيات ثلاث قلادات. من أين جئت بهذه القصة يا فاطمة؟ قالت: من السوق! كانت لما خرجت من الحانوت قد تغامزت مع البائع الفرح بالصفقة الصغيرة الثلاثية.
وصلنا إلى حانوت «أحمدو»، ابن ريف فاس. كانت قد كتبت عنه في كتابها «شهرزاد تروح غرباً». قالت عنه إنه الحائك الذي تعود أن يوسع لها تنورتها الجلدية العزيزة عليها كلما ازدادت عرضاً. في الكتاب قالت لبائعة الملابس في السوبرماركت الأميركي في نيويورك إنها لا تعرف قياس جسدها. فردت عليها البائعة وهي تقيس الجسد العريض بعينيها المستنكرتين إنهم لا يبيعون ما قد يناسب حجمها، فالموضة الآن هي النحول والأجساد الضامرة. قالت للبائعة: أليس عندكم «أحمدو» هنا كي يخيط ملابس تناسب الأجساد الممتلئة؟ لم تفهم البائعة السؤال، فخرجت فاطمة مبتسمة. قالت لنا إن «أحمدو» وسع تنورتها أربع مرات خلال الأربع عشرة سنة الماضية، عدة سنتيمترات في كل مرة. ابتسم «أحمدو» الذي كان يتابع لف عبد المعطي للفافة تبغ، ويسأله بنظرات عينيه إن كان ما يلفه تبغاً أم «كيفاً»! قال لنا «أحمدو» قلت لفاطمة في آخر مرة جاءتني فيها لأوسع التنورة: هذه آخر مرة أقوم بها بتوسعة هذه التنورة الملعونة.
في بيت لفاطمة خارج الرباط جلسنا على أرائك أندلسية في شرفة تطل على المحيط. صخب البحر يعانق صوت فاطمة إذ تنادي على عبد اللطيف اللعبي وتعرفنا إليه. عبد المعطي تأسف ألف أسف وهو يسأل اللعبي ماذا يشتغل؟ ضحك الشاعر، ربما من القدر، وابتسمت شعرات رأسه وشاربه الأبيض، وقال: اشتغلت سجيناً لفترة طويلة! ثم أغرقنا في حديثه عن الشعر وفلسطين. قال لنا بعضاً مما كتبه عن شعراء فلسطين، وعدد لنا ما نعرفه وما لا نعرفه. تأسف عبد للمرة المليون: أنت تتابع شعر المقاومة قبل أن أولد ثم أسألك ماذا تشتغل!
خرجنا من عند فاطمة وأشياء كثيرة كانت قد دخلت في دواخلنا إلى الأبد! نطوف اليوم حول كرسي فاطمة وهي تنثر الابتسامة العريضة الشهيرة، نبادلها الضحك، كأنها لم تمت، تجلس على الكرسي، رأسها في قلب السماء، تطل على البحر وتواصل الضحك.
** أفكار من مداخلات أُلقيت في الرباط بمناسبة الإعلان عن كرسي فاطمة المرنيسي في جامعة محمد الخامس. 1 كانون الأول (ديسمبر) 2016.