بقلم : رجب أبو سرية
خلال ساعة واحدة فقط، انخفضت القيمة السوقية لشركة «تويتر» بقيمة مليار دولار أميركي، وهو مبلغ قد يعادل ميزانية دولة أفريقية، وبالتأكيد يسد رمق ملايين من البشر الجائعين في غير مكان من كوكب الأرض، وكان السبب في انخفاض القيمة السوقية للشركة المالكة للبرنامج المعروف، هو اختراق لحسابات شخصيات أميركية مرموقة، منها مالك أمازون، وبيل غيتس، وجو بايدن وباراك أوباما، وآخرين، نتيجة هجمات اجتماعية هندسية منسقة، قام بها قراصنة محتالون، طلبوا من متابعي الحسابات المخترقة إرسال مبالغ بعملة «البتكوين» الرقمية مع وعد بمضاعفتها، حيث حصلوا بنتيجة ذلك على مبلغ زاد على مئة ألف دولار.
هذا في الوقت الذي ظهر فيه العالم في مواجهة فيروس كورونا، كما لو كان بلا حول ولا قوة، هشاً وضعيفاً، كما لو كان مصنوعاً من بيت العنكبوت، حيث اعتاد الكثيرون منذ وقت على وصف شبكة الاتصالات العالمية، الناجمة عن الاتصال عبر الإنترنت وبرامج التواصل، بالشبكة العنكبوتية عن وجه حق، ليس ذلك ارتباطاً بما ما زال يقع من ضحايا نتيجة تفشي الفيروس في الغالبية الساحقة لدول العالم، وحسب، ولكن بالنظر أيضا الى ما أوقعه من خسائر اقتصادية ما زالت تطيح باقتصاديات الدول والشركات والأفراد، في كل مكان، بحيث ان العالم يبدو اليوم كما لو كان على موعد مع مجاعة عالمية، لم يحدث لها مثيل منذ الحروب العالمية التي جرت في القرن الماضي.
ربما كانت الصدفة وحدها هي التي جعلت من انتهاء الحرب الباردة وإقامة نظام عالمي يستند الى ما سمي بالقطب الواحد، مع ظهور ثورة الاتصالات الكونية، لكن بالنتيجة فإن «انقلاباً» كونياً قد حدث، وقد أدى الى اتساع الفجوة بشكل كاسح، بين فقراء العالم وأثريائه، والأهم، أنه جعل من قصة الثراء الفاحش، أمراً ممكناً، بوقت قياسي وقصير، وليس نتيجة الجهد الإنتاجي، أو نتيجة استخراج الثروات الطبيعية، بل إن المرء يكاد يقتنع بأن صناعة العملة باتت أمراً مرتبطاً بطباعة الورق، فحصول بعض الأفراد على الثروات المقدرة بالمليارات، بات مرهوناً بلعبة هوائية في العالم الأزرق، نتيجة اختراع برنامج تواصل ما، او نتيجة برمجة أو حتى نتيجة قرصنة، بحيث يمكن القول، إن العالم قد اجتاحته «فوضى» عالمية، وكأن السحر قد انقلب على الساحر، أي ان الإنسان الذي اخترع هذا العالم، بات غير قادر على السيطرة عليه.
في حقيقة الأمر، فإن العولمة أيضاً كانت وقبل ظهور العالم الافتراضي، وقبل أن تحل على البشرية أجواء ثورة الاتصالات، قد بدأت تخترق الحدود القومية للدول والمجتمعات بأكثر من شكل وأداة ووسيلة، ويكفي القول هنا، إن أي إنسان يمكنه أن يتواصل اجتماعياً وثقافياً مع أي إنسان آخر، بل ومع أي تجمع أو مجتمع آخر، ولو كان في آخر الكرة الأرضية وهو في بيته. أي لم تعد الفواصل بين الدول والمجتمعات قائمة، إلا في واقع يتآكل بشكل حثيث ومتواصل، لذا فبتقديرنا كان من نتيجة هذا الواقع الافتراضي، الذي صار ملازماً للواقع الحقيقي، تماماً، لم يعد ممكناً ان تنفرد او تتفرد الدول في التصدي لاستحقاقات العصر، لا في مواجهة «كورونا» ولا في مواجهة قراصنة البرمجة الإلكترونية، ولا في مواجهة ما يحدث من خلل في حالة التوازن بين البشر، خاصةً فيما يخص الفجوة الاجتماعية.
وهنا أيضاً يبدو التصدي لما يحدث من حروب وصراعات، خاصة ما يحدث في بلادنا العربية، التي تشهد منذ بدأ هذا العقد الثاني من القرن العشرين، حروباً داخلية، كان دافعها تغيير أنظمة بعينها، فإذا بها تذهب بالدول ذاتها، في عملية كانت الإدارة الأميركية قد وصفتها في حينها، بأنها «فوضى خلاقة»، يبدو التصدي لما يحدث ليس ممكناً بالاعتماد على العوامل الداخلية فقط، ولعل ما حدث في سورية ويحدث في اليمن وليبيا من تدخل خارجي خير دليل على ان «الوحدة القومية للدول» لم تعد امراً قائماً، ولكن هذا يجب ان لا يقتصر على دول بعينها، بل لابد أن يشمل كل دول العالم.
أي أن البشرية وقد بات الحال هكذا، لابد لها ان تقيم نظاماً عالمياً، كما لو كان «دولة العالم» بشرط أن تكون دولة عادلة، تساوي بين الشعوب والأفراد، وتسعى الى كبح حالة الثراء الفاحش، وتكدس الثروة العالمية بيد افراد، اكثر مما كانت تجتمع بيد الدول القومية فيما مضى من زمن.
ولعل ما يرجح ذهابنا بهذا الاتجاه، هو أن منظمة الأمم المتحدة، قد أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، لتحافظ على الأمن والسلم العالميين، ولتجنب البشرية حروباً يمكن ان تؤدي الى فناء البشرية على الكرة الأرضية مع ظهور القنابل النووية التي ظهرت واستخدمت لأول مرة في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت قد نجحت في منع تحول الحرب الباردة بين القطبين الى حرب ساخنة، لكنها ما زالت تعجز عن وضع حد لأسوأ وآخر احتلال يقع على أرض وشعب فلسطين، وما زالت تعجز عن ملاحقة مجرمي الحرب والخارجين عن القانون الدولي، حين يحتمون بحق النقض/ الفيتو الذي تتمتع به خمس دول فقط، من بين نحو مئتي دولة يتوزع عليها سكان الكرة الأرضية.
فحتى لا يتبدد بيت العنكبوت العالمي نتيجة عاصفة هوجاء، أياً يكن باعثها، أو مطلقها، لا بد من نظام عالمي جديد، يتساوى فيه البشر من حيث الحقوق والواجبات، وتتحقق فيه العدالة الكونية، نظام عالمي يكون بمثابة دولة العالم، التي تحفظ نظامه الكوني، فيما تتحول الدول داخله، الى ما يشبه حكومات الإدارة المحلية، او حكومات الحكم الذاتي، فلا يكون قانونها فوق القانون العالمي، حتى نرى هنا استحالة ان تقوى «دولة» احتلال مثل إسرائيل على إصدار قوانين تخرق القانون الدولي، دون ان تعاقب، ولا ان تقوم نخبتها العسكرية بارتكاب جرائم حرب دون أن تنال العقاب الذي تستحقه، لمجرد وجود من يحميها بقوة حق النقض/الفيتو، فالقرصنة هنا ليست افتراضية، بل هي حقيقية مئة بالمئة، ووجوب العقاب لازم كذلك مئة بالمئة، وكل هذا يحتاج كفاحاً عالمياً تشارك فيه كل شعوب الكرة الأرضية، التي باتت تعي بشكل متزايد أن القهر الذي يقع في طرف الدنيا، انما يهددها في بيتها، بل وفي حجرة نومها، وهذا هو جوهر الإنسانية والوحدة بين البشر، وليس وحدة الوهم الافتراضي، الذي ما زال يخفي وجود التناقض بين نزعتي العدالة والأنانية.