بقلم : مهند عبد الحميد
سواء جرى ترسيم ضم الأغوار وشمال البحر الميت والمستعمرات المقامة على الأراضي الفلسطينية، أو جرى التأجيل، وسواء كانت الخطوة جزئية او كلية، فإن جميع الاحتمالات المطروحة لا تغير من حقيقة الإمعان الإسرائيلي في تصفية القضية الفلسطينية، وفي تقويض مقومات حق تقرير المصير الفلسطيني على الأرض. ذلك أن دولة الاحتلال أحدثت التحويلات ذات الطبيعة الاستعمارية على الأرض، كالتطهير العرقي، والسيطرة على الموارد (مياه وأرض وزراعة ومخرجات أُخرى كالغاز والملح)، إضافة الى قطع التواصل الفلسطيني الداخلي ومع الخارج، ووضع المواطنين في بنتوستونات فصل عنصري داخل قبضة أمنية إسرائيلية محكمة. التأجيل مع بقاء التحويلات والسياسات الإسرائيلية على حالها لا يغير في مضمون السيطرة الإسرائيلية على كل شيء، ولا يغير من النتيجة المأساوية وهي تقرير المصير الفلسطيني من زاوية الأطماع والهيمنة الإسرائيلية ومن طرف واحد.
كانت السياسات الإسرائيلية منسجمة في تلبية الأطماع الاستعمارية من جهة، وفي تفكيك البنية الفلسطينية القادرة على بناء معادلات تحد من تلك الاطماع. في مقابل سياسات فلسطينية فصلت التفاوض عن التحويلات الاستعمارية على الأرض، وانتظرت تدخلاً أميركياً دولياً لإنقاذ الوضع، وكانت النتيجة تدمير مقومات الحل الذي يقبل به أكثرية الشعب الفلسطيني، ما جعل المهمات المطروحة راهناً شائكة ومعقدة. فمن أجل فتح الطريق أمام الحل لا مناص من فرض تراجعات إسرائيلية في مجال نهب الأراضي والإزاحات السكانية والسيطرة على الموارد، واعتماد القانون الدولي كناظم لهذه العملية.
منع وإفشال ترسيم الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية مهم وضروري، لكنه اذا لم يرتبط بتراجعات ميدانية، فقد تكتفي دولة الاحتلال، ببقاء التحويلات على حالها وتدعيمها بإجراءات إضافية، والاكتفاء بإدارة الصراع لمدى زمني مفتوح. عدد من الجنرالات والأكاديميين ومراكز بحث ينصحون حكومتهم بالامتناع عن الضم «النظامي» والاكتفاء بالضم العملي، وإدارة صراع مفتوح يكون الطرف الفاعل والمقرر فيه اسرائيل، وتكون فيه فلسطين طرفاً «ممانعاً» ومعترضاً بالأقوال والشكاوى على غير طائل، وتبقى فيه «المقاومة» في حالة تهدئة لا يعكر صفوها غير بعض «البلالين الحارقة» التي تتوقف فقط مع إرسال الأموال بالبريد الحربي الإسرائيلي!.
بصرف النظر عن الخطوة الإسرائيلية، فإن الوضع الفلسطيني ما بعد الإعلان عن صفقة القرن، لن يكون كما كان قبله. مرحلة ما بعد التي بدأت بنقل السفارة الأميركية الى القدس وضمها بشطريها للسيادة الإسرائيلية، وشطب قضية اللاجئين وصولاً الى ضم المستعمرات ومنطقة الأغوار للسيادة الإسرائيلية. الاختلاف بين المرحلتين شديد الحساسية، لجهة استخدام أي مواقف فلسطينية غير مدروسة كغطاء للصفقة الأميركية الإسرائيلية، وبخاصة القبول الفلسطيني بالتفاوض على أساس صفقة القرن، وإبرام هدنة طويلة الأمد بين «حماس» وإسرائيل على خلفية الصفقة، ولا يغير من خطورة مثل هذا الفعل تغليفه برفض الصفقة اللفظي. موقفان يضعفان الموقف ويشكلان غطاء لتمرير الصفقة.
فنحن أمام أمام استعصاء الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير وعلاقتها بالتمثيل السياسي وتطوير البنية التنظيمية والمؤسساتية التي لم تخضع للإصلاح منذ عقود طويلة. وهذا الاستعصاء يعود الى تشوه البنيات الحزبية التي لم تكن افضل حالاً من بنية المنظمة، فضلاً عن انفصال قوى الإسلام السياسي عن المنظمة وعن اي عمل وحدوي مشترك وانحيازه للعمل المستقل والموازي. مشكلة الحزب الحاكم التي تجسدها حركة فتح نابعة ليس فقط من رغبة النخبة التاريخية في الإمساك بالوضع الى ما لا نهاية، وإنما تعود أيضاً لغياب النضال الديمقراطي في إطار المجتمع المدني، مقابل رفض الإسلام السياسي الاندماج في اطر وطنية مشتركة، ولم يسجل الاندماج كخيار طوعي تاريخي لتنظيمات الإسلام السياسي التي انحازت لأطر ومراكز موازية في المعارك الكبيرة والذي يعود للرؤية الأيديولوجية المغلقة والنخبة الإسلاموية الطامحة في استبدال استئثار بآخر.
وهذا الوضع لا يقتصر على الحالة الفلسطينية وإنما يمتد الى تجارب في مصر والسودان وتونس وليبيا وغيرها. في ظل هذه العقبة التي تعترض الوحدة الوطنية، لا نريد الهرولة الى ما يعتقد انه حل للمسألة الديمقراطية بالانتخابات التي لا يمكن التحكم بها او ضمان عدم التدخل فيها، في مقابل ذلك من الخطأ استئثار طرف بالقرار الوطني وبخاصة عندما يطرح مصير الشعب والوطن على بساط البحث. من الطبيعي البحث في صيغ أخرى أقل من وحدة في إطار المنظمة، من نوع الاتفاق المشترك على هزيمة صفقة القرن والانعتاق من براثنها ووقف عملية التفكيك التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وتساهم النخب السياسية في تكريسها.
لماذا لا تتوصل «فتح» و»حماس» الى اتفاق من بند واحد هو هزم صفقة القرن بكل تجلياتها، والحفاظ على شكل فدرالي بين الضفة والقطاع والمخيمات خارج الوطن، يؤكد على دور المنظمة المركزي كطرف شرعي وحيد، معتمد دولياً وعربياً وإقليمياً على ان يشارك الإسلام السياسي في اتخاذ القرارات من خلال الصيغة القائمة، وتجاوز «الفيتو» الذي يشترط المشاركة، بتغييرات بنيوية كلية. إن إعادة فك وتركيب المنظمة دون أن تتوفر الروافع الديمقراطية ستكون قفزة في المجهول تهدد الشرعية الفلسطينية بالانكسار وبالعودة الى أشكال من الوصايات.
ما يحدث واقعياً في مجال التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والمدنية ( أسرى وشهداء وعائلاتهم وغير ذلك ....) هو شكل فدرالي بين الضفة والقطاع. أعتقد ان رؤية التناقضات الداخلية الفلسطينية والعمل على حلها يبدأ من خلال التصدي للمخاطر الداهمة وفي مقدمتها صفقة القرن وجائحة كورونا والضم والحصار والقرصنة. لماذا لا نعترف بالعلاقة القائمة عمليا ونسعى الى تطويرها بالاستناد لأجندة فلسطينية مستقلة؟
مواجهة الضم والقرصنة والصفقة الأميركية الإسرائيلية، تحتاج الى خطط موقعية وقطاعية والى خطة عامة. الخطة العامة تنطلق من:
• مأسسة الانسحاب من مسار أوسلو سياسياً بوقف الاعتراف بدولة الاحتلال، وأمنياً بوقف التنسيق الأمني، واقتصادياً بوقف العمل باتفاق باريس، والعمل على تأسيس مسار التحرر والخلاص من الاحتلال.
• نزع كل غطاء فلسطيني للتعاطي العربي الرسمي وكذلك دول منظمة التعاون الإسلامي مع صفقة القرن.
• الانسحاب التدريجي من سوق العمل الإسرائيلي وبخاصة العمل داخل المستعمرات وبنيتها التحتية، وإيجاد البدائل داخل السوق الفلسطيني والعربي، ومن خلال صندوق العامل.
• مقاطعة السلع الإسرائيلية ومنع دخولها للأسواق الفلسطينية بالترافق مع تأمين البدائل المحلية ومن الدول العربية.
• خوض معارك قانونية ضد جرائم الحرب كالاستيطان ونهب الموارد، ومعاقبة المتهمين بارتكاب جرائم بحق الأبرياء والمواطنين العزل.
• اعتماد برنامج المقاطعة الذي اعتمدته حركة «بي دي إس» في الداخل والخارج.
• تعزيز العمل مع القوى الإسرائيلية المناهضة للاحتلال والاستيطان والضم، والعمل على قدم المساواة.
قد يهمك أيضا :
الفشل لا يغير الهدف المركزي بل يعيد بناءه
الدروس التي لم تقرأ منذ 53 سنة هزيمة