لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل نظاماً أسوأ من العبودية، هذا النظام القبيح موغل في القِدم، وقد نشأ مبكرا جدا، منذ بدايات تشكل المجتمعات والدول، مارسته كل الشعوب بحق بعضها، حيث كانت الجيوش الغازية تستبيح جاراتها، وتسترق رجالها، وتسبي نساءها، وحتى داخل الشعب الواحد، حيث كان القوي يستعبد الضعيف.. بل إن نظام الدولة نشأ أساسا بهدف حماية وشرعنة العبودية.
في العبودية، لا كرامة للعبد، لا حقوق، ولا حياة خاصة، ولا حتى اعتراف بإنسانيته، يتحول إلى آلة إنتاج، وخدمة، وإذا أعرب عن تظلمه بأي شكل، سيلاقي أشد العذاب.. كان العبيد يعملون منذ الصباح الباكر، وحتى بعد مغيب الشمس، إلى أن تنهك أجسادهم تحت السياط والشمس اللافحة، وفي أسوأ الظروف، وأكثرها قسوة.. كان يتم الاتجار بهم، وعرضهم في أسواق خاصة، كان يتم تفريق العائلات عن بعضها، وكانت النساء يُغتصبن أمام أهاليهن.. والأطفال يُجبرون على العمل منذ سن السادسة.
كان العبيد سابقا من كل الأجناس والألوان، ولكن الأوروبيين في الحقبة الأخيرة جعلوا العبودية مقتصرة على السود، حيث صارت إفريقيا منبع تجارة العبيد، ووجد ملاك الأراضي في العالم الجديد، والتجار والقراصنة والسماسرة في هذه القارة كنزاً لا ينضب، كانوا يحسبون العبيد ضمن بقية البضائع والمنتجات المنهوبة من إفريقيا.. يكدسونهم في سفنهم الرهيبة كما لو أنهم أكياس حبوب، أو براميل نبيذ.
حتى نهاية القرن الثامن عشر، كان عدد العبيد الذين تم جلبهم من إفريقيا إلى أميركا الجنوبية نحو 8 ملايين عبد، ومليونين آخرين تم سوقهم إلى أوروبا، وفي القرن التاسع عشر تكثفت تجارة العبيد بشكل محموم، وصارت الولايات المتحدة المركز الجديد لهذه التجارة، فكان ينقل إليها نحو مائة ألف عبد سنويا.
بعد مقتل نحو خمسين مليون عبد (أثناء نقلهم، أو بسبب ظروف عملهم القاسية)، كانت بريطانيا أول دولة تلغي العبودية، وقد أصدرت قراراً يحرم الاتجار في العبيد سنة (1807)، لكن ذلك القرار لم يكن صحوة أخلاقية من الرجل الأبيض، بل بسبب التغييرات الاقتصادية التي أحدثتها ثورة هاييتي (1791 - 1804)، تلك الجزيرة كانت تمثل نصف إمدادات التجارة العالمية من السكر، الذي كان أهم سلعة حينها، فلما خسرها البيض تحول مسار تجارة العبيد إلى الولايات المتحدة، فلم ترغب بريطانيا في أن يستفيد خصومها ومنافسوها (أميركا، فرنسا، البرتغال، إسبانيا) من هذه التجارة، وأرادت حرمانهم من مصدر إنتاجي مهم، ومن ناحية ثانية، بدأت تتحول من فكرة جلب العبيد إليها، أو إلى مستعمراتها، إلى فكرة استعباد الشعوب في أوطانهم، ونهب ثرواتها على أيديهم، أي فكرة الاستعمار الكولونيالي.
أما الولايات المتحدة، فقد ألغت العبودية في بداية ستينيات القرن التاسع عشر، وأيضا لم تكن الدوافع أخلاقية ولا إنسانية؛ بل بسبب تحولات أدوات ووسائل الإنتاج في الولايات الشمالية، وتغير بنيتها الاقتصادية، ورغبة منها في ضم الولايات الجنوبية، التي كانت تعتمد في اقتصادها على العبيد، والاستفادة من العبيد أنفسهم في الحرب الأهلية ضد أعدائهم الجنوبيين.
المهم، أن العبودية انتهت.. ولكن أحد أهم أسباب انتهائها تمثل في ثورة العبيد في هاييتي.. لم تكن تلك أول ثورة عبيد في التاريخ، فقد سبقتها ثورات كثيرة، أشهرها ثورة «سبارتاكيوس» في القرن الأول الميلادي، وثورة الزنج في العراق في القرن التاسع الميلادي (قد نتناولها في مقال قادم)..
في هاييتي اكتشفت حديثا مئات المقابر الجماعية، لرجال ونساء من العبيد لم يبلغوا الثلاثين، هرموا وماتوا من شدة التعذيب.. ما يدل على سوء أوضاعهم آنذاك.. ما حدث حينها، انتصار الثورة الفرنسية (1789)، والتي وصلت أصداء شعاراتها المنادية بالحرية والمساواة إلى جزر الكاريبي.. كان السود آنذاك يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان البرازيل وفنزويلا وجزر الكاريبي، وكان البيض أقلية، لكنها مسيطرة بالحديد والنار.. كانت هاييتي تستقبل 45 ألف عبد سنويا.
بعد سنوات قليلة من قمع ثورة القائد «أمادور»، بدأت الجزيرة تغلي، وأخذ العبيد يفرون من مزارعهم ويلجؤون إلى الجبال، وينظمون صفوفهم، ويغيرون على مزارع البيض، وفي يوم 22 آب 1791، في تلك الليلة العاصفة، وعند حلول الظلام، تجمعت أفواج غفيرة من العبيد عند غابة التمساح، للاستماع إلى فواكيما، كاهنة الفودو، وهي تستدعي آلهة الأسلاف الأفارقة.. وقفت وسط الجموع، وأخذت تخطب بهم، وتحثهم على الثورة، قائلة: «الرب الذي خلق الأرض، والشمس التي تعطينا النور، الرب الذي يمسك البحر، ويجعل الرعد يهدر.. أيها الرب السميع، يا من تختبئ خلف الغيوم، وتشاهدنا من مكانك العلي، أنت ترى كل ما نعانيه بسبب البيض، ربُّ الرجل الأبيض يطلب منه أن يرتكب الجرائم بحقنا، لكن الرب الذي بداخلنا يريد منا فعل الخير، إلهنا الطيب والعادل يأمرنا أن نثأر لمظالمنا، وأن نثور على جلادينا، وهو الذي سيوجه سواعدنا، ويأخذنا إلى النصر، هو من سيساعدنا، علينا جميعا أن نتخلص من صورة رب الرجل الأبيض عديم الرحمة، أنصتوا لصوت الحرية الذي يصرخ في قلوبنا جميعا».
منذ تلك الليلة، تصاعدت الثورة بشكل عنيف، وأخذت تنتشر في عموم الجزيرة، استمر الكفاح اثنتي عشرة سنة، قادها سائق عربة يدعى فرانسواتوسا، وآخر اسمه دوتي بيكمان، هبت فرنسا لنجدة مستعمرتها، لكن الثوار سحقوا جيوشها، وألحقوا بنابليون هزيمته العسكرية الأولى، وهرب عشرة آلاف من البيض من الجزيرة، وفي العام 1804، ولدت أول جمهورية للسود من رماد الثورة، ليتردد صدى كلمة الحرية في جميع مزارع العبيد في الأميركتين، وفي كل جزر الكاريبي، ومن ثم في كافة أرجاء العالم. بعدها بثلاث سنوات ألغت بريطانيا تجارة العبيد. وبعدها بنصف قرن ألغتها الولايات المتحدة، لكنها احتاجت قرنا كاملا بعد ذلك حتى تخلصت من نظام التمييز العنصري.
مع أن العبودية الغيت في كل العالم بشكل رسمي، إلا أن ذيولها، وثقافتها، وإرثها الثقيل ما زال قائما، وبأشكال جديدة.
لا أعرف كم ستحتاج البشرية حتى تتخلص من كل أدرانها، وتنتصر لإنسانيتها، وتبني عالما دون حروب، ودون عنصرية، ودون استعباد.
قد يهمك أيضا :
خفايا اغتيال أبو جهاد
من هم «إخوان الصفا»؟