أخيرا، تمكن مصطفى الكاظمي من تشكيل حكومته، بعد خمسة أشهر من الشغور الحكومي في أعقاب استقالة عادل عبد المهدي، على وقع الانتفاضة الشعبية التي اجتاحت مدنا عدة بينها بغداد والبصرة والنجف والناصرية، وبعدما عجز عن القيام بمهمة التشكيل كل من المرشح عدنان الزرفي، وقبله محمد توفيق علاوي.
وواضح وبشكل جلي أن توليد الوزارة العراقية، هذه المرة، لم يكن على يد قابلة قادمة من طهران، وهي المحشورة بين «كورونا» وعقوبات ترامب.
ولكن هل ما جرى يعني ان إيران أقرت أخيرا بعدم قدرتها على الإمساك بمفاصل السلطة العراقية، خصوصا أن الكاظمي وهو رجل المخابرات اقرب الى واشنطن منه الى إيران، والمنحاز الى ترسيخ دور الجيش والأجهزة الأمنية الرسمية وتهميش دور ميليشيات الحشد الشعبي. وخصوصا أن طهران لم تستطع عرقلة تسميته لضابطين محترفين في موقعي وزير الداخلية ووزير الدفاع.
صحيح أن هذه الحكومة ليست معادية لطهران، التي استطاعت عبر الجنرال إسماعيل قآني، الذي حلّ مكان سليماني، وضع «فيتو» على عدنان الزرفي. وهناك قنوات بين الكاظمي نفسه وطهران. لكنّ الأكيد أن «الجمهورية الإسلامية» كانت تطمح إلى أن يشكل شخص آخر غير مصطفى الكاظمي الحكومة، وهو المعروف عنه أنه ليس إيراني الهوى، ويملك علاقات وثيقة مع الجانب الأميركي، وعلاقات طيبة مع المملكة السعودية.
وهو الذي كتب في مقالة سابقة له في «المونيتور»، إن العلاقات العراقية السعودية هي المفتاح الرئيسي لمشاكل وحلول الأزمات في الشرق الأوسط. وقال، إن العلاقات بين العراق والسعودية ليست خيارا بل واجب استراتيجي على البلدين ويجب العمل على توسيعها إلى أعمق نقطة.
أما على الجانب الأميركي، فقد سارع وزير الخارجية مايك بومبيو إلى تهنئة الكاظمي وإبلاغه بأن الولايات المتحدة ستعطي العراق استثناءً لمدة 120 يوما لمواصلة استيراد الكهرباء من إيران، وذلك لمساعدة الحكومة الجديدة على النجاح. وبدا النائب في البرلمان العراقي هشام السهيل واثقا من أن «علاقات الكاظمي الدولية والعربية الواسعة، ستوفر له فرصا كبيرة للنجاح.
وبدأت قصة نجاح الكاظمي مع عودته إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003. ليشارك في تأسيس شبكة الإعلام العراقي، تزامناً مع دوره كمدير تنفيذي لـ«مؤسسة الذاكرة العراقية»، وهي منظمة تأسست لغرض توثيق جرائم نظام البعث. لكن المفاجأة كانت عندما قام حيدر العبادي بتعيين ناشط حقوقي في رئاسة جهاز المخابرات وهو مصطفى الكاظمي، في عز المعارك ضد تنظيم «داعش». هذا المنصب الإستراتيجي أبعد الكاظمي عن الأضواء، لكنه منحه علاقات مع عشرات الدول والأجهزة التي تعمل ضمن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش»، وطوّر من مواهبه كمفاوض ووسيط.
قال الكاظمي حين تكليفه، إن المواطن العراقي ليس تابعا أو عميلا، والموقف الذي أشار إليه ليس حركة استيعابية لانتفاضة أكتوبر، ولكنه يعبر عن نفس استقلالي وطني. وقال بعد تشكيله لحكومته، إنه لن يقبل أن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات، وهو يعني انه ليس بمقدور العراقيين أن يبقى العراق أكثر من ذلك مختبراً للعلاقات الأميركية – الإيرانية ولتبادل اللكمات والرسائل.
ومن الصدف أن يتزامن تاريخ تكليف الكاظمي مع ذكرى سقوط نظام صدام حسين، والكاظمي هو من النخب السياسية والفكرية التي راهنت على التغيير من الخارج، وبنت جزءاً من مشروعها على فكرة الترابط المتوازن ما بين العراق والخارج، من خلال خلق رهانات مشتركة وقواعد عمل متشابهة. ولكن التجربة المريرة لعراق ما بعد صدام، وضعت الكاظمي في مكان آخر.
ويبدو أن هناك توجها واضحا لدى الكاظمي بأن تكون مصلحة العراق هي البوصلة بعيدا عن الخارج، وأن لدى الكاظمي طموحات لا تتفق مع الطموحات الإيرانية بالنسبة إلى مستقبل العراق.
وهذا ما نلمسه من قرار إعادة الاعتبار إلى الفريق عبد الوهاب الساعدي وترقيته إلى رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، بعدما جرى تجميد عمله في عهد عادل عبد المهدي. بعدما شكل الساعدي، الذي تحول سريعا إلى بطل شعبي في سنوات الحرب على «داعش»، وتعامل بمهنية ووطنية عالية بعيدا عن الطائفية، خطرا كبيرا على مصالح الميليشيات العراقية، وبدا أنه يهدم جهودها التي ركزت لسنوات على تخريب صورة المؤسسة العسكرية، وإظهارها بمظهر العاجز والفاسد. وكان قرار ترقية الساعدي من بين الحزمة الأولى في القرارات التي أطلقتها حكومة الكاظمي التي يبلغ عمرها يومين.
يعرف مصطفى الكاظمي أن رئاسة الوزراء جاءته في توقيت حسَاس. وأنَّ العالم يتَّجه نحو مرحلة كئيبة بسبب جائحة كورونا، وبالغة الصعوبة. لأن أهل الأرقام يتحدَّثون عن كساد غير مسبوق. وموجة هائلة من الإفلاسات والعاطلين عن العمل. المرحلة المقبلة تبدو صعبة حتى في البلدان التي تمتلك مؤسسات اقتصادية وسياسية راسخة قادرة على المبادرة والتكيف. فكيف يكون الحال في بلد منهار وينخره الفساد، مثل العراق، بلد تعرض لعملية نهب منظمة جعلت دولة تنام على النفط تخشى من عدم قدرتها على تسديد رواتب المتقاعدين. وهو مدرك لما قاله جان جاك روسو، إن «الحاكم الفاشل لا ينتج سوى الخواء والفوضى والاضطراب، ولا يعطي مواطنيه سوى الفشل والظلم وذل العوز».
يحتاج الكاظمي إلى التفكير بعيدا عن عمليات الترضية السياسية المتبادلة في إطار المساومات بين الكتل السياسية وزعاماتها التي تركزت على توزيع المغانم، بدلا من تركيزها على إدارة الدولة وفق نموذج الفريق الوزاري الذي يسعى لترسيخ علاقته مع المواطن لا مع الطبقة السياسية.
فالنظام السياسي العراقي يحتاج إلى عملية فتح الجرح وتنظيفه، بدلا من جرعة الأفيون التي تكون عبارة عن سياسات ترقيعية تزيد التوتر في العلاقة بين المجتمع والدولة بدلا من تجاوزها. كما ويقع على كاهل الكاظمي محاولة التفاوض بشأن القنوات الاقتصادية الحيوية للبلاد، مع انهيار أسعار النفط عالميا، إضافة إلى مسألة الإعفاءات الأميركية للعراق من العقوبات على إيران.
قد يهمك أيضا :
عن تغيير النظام الاقتصادي اللبناني
عن الخوف الوجودي