منذ باريس 1، إلى باريس 2، حتى باريس 3، وصولاً إلى مؤتمر «سيدر»، وحكومات لبنان تطرح أوراقاً إصلاحية - على الورق - من أجل الحصول على دعم مالي، والعناوين الاقتصادية لا تزال ضائعة: بين حجم القطاع العام الذي تخطّت كلفته 40% من الموازنة السنوية (فيما المعدل الدولي بين 10 و15% كحد أقصى) كإنفاق جارٍ، يُضاف إلى 40% لخدمة الدين وعجز الكهرباء الذي تخطّى 11% من الموازنة سنوياً، وضرورة إشراك القطاع الخاص.
ولكن الجديد اليوم، أن تمويل «صندوق النقد الدولي» يمثّل اليوم الحجر الأساس في الخطّة الحكوميّة التي طرحها الرئيس حسّان دياب. ولا تملك الحكومة حاليّاً أيّ تصوّرات لخطط واقعيّة بديلة في حال فشلت بدخول برنامج قرض مع الصندوق.
وعشية انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد، وجّه المجتمع الدولي رسالة قوية إلى بيروت، عندما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس: إن على الحكومة والجيش العمل على نزع سلاح «حزب الله» بالتوازي مع بدء المفاوضات مع وفد صندوق النقد.
كما أن ضبط الحدود والمعابر، والمرفأ والمطار، سيكون العنوان الدولي الأساسي كمدخل للإصلاح، ولوقف الهدر والفساد وضبط مالية الدولة. وهنا حتماً ستكمن المفاوضات السياسية التي ترتبط بترسيم الحدود، والتي ستكون مترابطة بين الحدود الشرقية والحدود الجنوبية. وهي إحدى الشروط الأميركية ليتمكن لبنان من الحصول على مساعدات.
فقد انفجرت في بيروت فضيحتان، فضيحة الفيول المغشوش الذي كانت قوى سياسية تستفيد منه بمليارات الدولارات منذ العام 2010، وفضيحة تهريب ملايين لترات المازوت والبنزين وكميات كبيرة من الطحين يومياً، وكلها مواد مدعومة من المصرف المركزي، إلى سورية حيث وصلت أرباح المهربين ذوي السطوة والذين يمسكون بالمعابر الحدودية إلى مئات الملايين.
العواصم الدولية - واشنطن وباريس – تؤكد أنه لا يمكن وضع اليد في سلة مثقوبة، أو في بلد عبارة عن مجموعة من الثقوب السوداء التي تبتلع كل شيء، وقال مصدر فرنسي بالحرف الواحد: لا يمكن أن تأتي على يد الذين صنعوا الفساد، وهو ما يذكّر بقول إدوارد دانيال من «تاسك فورس فور ليبانون» عندما زار بيروت وقابل المسؤولين: «لا يمكن تنظيف البيت بالممسحة الوسخة. مؤكداً على ضرورة مراقبة الدولة اللبنانية والجيش اللبناني، المعابر والحدود مع سورية.
لكن نصر الله سارع إلى القفز فوق الموضوع، بالقول: إن لبنان في حاجة إلى إعادة ترتيب العلاقات مع سورية، من أجل ضبط الحدود والمعابر. وإنه يرى أن هذا التهريب لا يمكن أن يعالج إلا بالتعاون مع سورية، وحتى لو انتشر الجيش اللبناني على كل الحدود، لن يتمكن من أن يمنع التهريب. وهو بذلك يريد منح شرعية للنظام السوري، تحت ذريعة مكافحة التهريب.
ولا يكفي إقرار ميشال عون بأن الاستعانة بصندوق النقد باتت ممراً إلزامياً لإنجاح خطة الإنقاذ الاقتصادي، فالمسألة ليست مالية واقتصادية بل مسألة سياسية وسيادية، ولا يحتاج الذين يفاوضون عن حكومة حسان دياب إلى الكثير من الشرح ليعرفوا أن صندوق النقد الدولي ليس متحمساً لدفع مليارات من الدولارات قد تفيد حكومة يديرها «حزب الله» أكثر مما تفيد الشعب اللبناني.
وواضح أنه تحت سيف البطالة والأزمة المعيشية الصعبة، تبدو المفاوضات الشاقة مع الدول الممولة بمثابة سباق فعلي بين ثورة الجياع والمليارات المشروطة بتقليم أظافر «حزب الله».
وهناك شبه إجماع على توصيف الوضع المالي والاقتصادي بأنه غير مسبوق. هذا التوصيف يفترض إجراءات استثنائية غير مسبوقة أيضاً. لكن ما يجري لا يوحي بوجود قرار حقيقي بالإنقاذ، بدليل أن «الحرب»
مستعرة بين رئيس الحكومة حسان دياب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والتي لم ينج منها مدير العمليات النقدية في المصرف إبراهيم حمدان الذي تم توقيفه بتهمة التلاعب بأسعار الدولار.
وتستمر المواجهة من منصات متعددة، من ضمنها أن دياب ينظر بعين الريبة إلى مواقف سلامة حيال تدهور سعر الليرة في السوق السوداء. ويصل به الأمر إلى حدود الشبهة بأنّ سلامة يشارك في رفع الدولار، لدفع اللبنانيين للخروج إلى الشوارع، مطالبين بإقالة حكومة دياب.
وأصبح الوضع حرجاً، بعدما لم يتمكن الوفد اللبناني المفاوض من تقديم موقف موحد حيال نظرته للواقع، ولطريقة المعالجة. حيث سيقدم رياض سلامة مقاربته الخاصة في توصيف الأزمة الاقتصادية والحلول الممكنة للمعالجة. وبالتالي، سيصبح الموقف الرسمي موقفين، وسيتحوّل صندوق النقد من مفاوض على الخطة الحكومية، إلى وسيط و»شيخ صلح» بين مكونات الوفد الرسمي اللبناني.
المشكلة أيضاً في احتمال انتقال المواجهة إلى مفاوضات صندوق النقد، مع افتراض أن يسأل وفد البنك الدولي اللبنانيين، السؤال نفسه الذي سأله المستشار الألماني الأسبق، هيلموت سميث.
منذ عشرات السنين، عندما طالب المسؤولون اللبنانيون المجتمع الدولي بمساعدة مالية، فردّ المستشار: كم سيارة من نوع مرسيدس ألمانية الصنع في لبنان.
لقد قصد المستشار وقتذاك أن من لديه هذا العدد من أحدث السيارات وأغلاها ثمناً لا يحتاج إلى أي مساعدة خارجية.
وفي الاستنتاج الافتراضي، فإن مسؤولي صندوق النقد سيقولون للبنانيين: أنتم لستم في حاجة إلى أي مساعدة في حال قررتم أن توقفوا الفساد والهدر.
ويرى الخبراء ضرورة توفر شرطين أساسين لحصول لبنان على أموال من صندوق النقد: الأول، أن تكون الخطة التي قدّمها لبنان وافية وصلبة ومُقنعة للصندوق، والثاني أن يجيب لبنان عن سؤال وحيد: إذا قدم لك صندوق النقد قروضاً، كيف ستردها؟ وما هي الإجراءات التي عليك أن تقوم بها لتقنع صندوق النقد بأن يطمئن لقروضه ويفتح خزائنه أمامك؟ خلاصة الأمر: إن التفاوض مع صندوق النقد لن يكون نزهة. ومن المعروف عالمياً أنّ المفاوضات مع صندوق النقد تكون صعبة وشاقّة بالنسبة إلى الدولة المتعثرة التي تخوضها، فكيف إذا كانت أيضاً مبعثرة تحت وطأة التجاذبات الجانبية وافتقار ممثّليها إلى رؤية مشتركة، كما ظهر لبنان في البدايات المهزوزة. والفراغات النافرة في المنظومة أو البنية التحتية المالية، إذ إن التجاذبات السياسية حالت حتى الآن دون تعيين نواب حاكم البنك المركزي ومفوض الحكومة لديه ولجنة الرقابة على المصارف بعدما انتهت ولاية الأعضاء السابقين.
قد يهمك أيضا :
الكاظمي والمهمة المستحيلة في العراق
عن الموقف الروسي من بشار الأسد