مع صعود "الجنرال" إلى الهاوية ـ كما جاء في نهاية المقال الأخير ـ تكون إسرائيل قد دشّنت عهداً جديداً في تاريخها، وتكون ديمقراطيتها المزعومة قد توارت إلى الصفوف الخفية، وتكون الدولة التي طالما تغنّت بالديمقراطية ـ كحالة فريدة في الإقليم ـ قد أخلت الطريق أمام حكم سياسي "شمولي" من نوع فريد وجديد قد لا يكون له مثيل.
معروف أن إسرائيل طالما راهنت على تسويق نفسها للعالم باعتبارها واحةً للديمقراطية في إقليم مستبد، وفي منطقة تعيش تحت سياط أنظمة متخلّفة وفاسدة وديكتاتورية مطلقة طاغية.
حتى أن بعض المفكّرين قال، إن أهم سلعة ظلت تتاجر بها إسرائيل، وتصدّرها للعالم هي "سلعة" الديمقراطية فيها. وتحت غطاء هذه السلعة بالذات استطاعت إسرائيل أن تضمن لنفسها الانخراط التام في منظومة العالم "الحرّ"، وتمكنت من تمرير الكثير من مقولاتها الخاصة.
ولسنواتٍ طويلة، اتكأت إسرائيل على "الهولوكوست" وسوّقت نفسها إلى العالم باعتبارها دولة ديمقراطية في محيط مستبد، يسعى لإبادتها...! هذه الصورة تراجعت بعد العدوان الإسرائيلي في حزيران "67"، واستمرت بالتراجع والانحدار مع تسارع مشاريع الضمّ والمصادرة والاستيطان الكولونيالي، ومع القمع والبطش الذي مارسته ضد مقاومة الشعب الفلسطيني لكل سياساتها، ولكل انتهاكاتها لحقوقه.
بعد احتلال الضفة والقطاع، تعزّزت الصناعة الإسرائيلية، ووفّرت اليد العاملة الفلسطينية الجديدة فرصاً غير مسبوقة لدخول إسرائيل والتحاقها بالركب الرأسمالي المتطور، خصوصاً بعد سيطرتها على أسواق الأرض الفلسطينية، وتحويل هذه الأسواق إلى مستوردين مرغمين لسلع الصناعات الخفيفة والمتوسطة، وهو الأمر الذي مكّن من إحداث تراكم رأسمالي كبير لتطوير الصناعات الثقيلة و"الريادية".
ترافقت هذه العملية تدرّجاً وصعوداً مع اندثار "الكيبوتس"، ومع "تبرجُز" النقابات العمالية "الهستدروت"، وهيمنة، أو بدء هيمنة اليمين الإسرائيلي على النظام السياسي في إسرائيل.
ظلّ منحنى "تقييد" الديمقراطية صاعداً ببطء، وببطءٍ شديدٍ أحياناً حتى العقد الأخير، أو ربما لعدة سنوات قليلة قبل هذا العقد، إلى أن "أصبحت" الديمقراطية في إسرائيل جزءاً عضوياً من الاستهدافات اليمينية، وبعد أن تحوّل اليمين نفسه من يمين ليبرالي مهيمن إلى يمين جديد، قومي وديني متطرف، وبحيث تحول اليمين الليبرالي إلى أقلية، وأقرب إلى حال التراث والفولكلور السياسي.
في الواقع، لا يستقيم الحديث عن ديمقراطية إسرائيل دون تأكيد أنها ديمقراطية مشوهة، نشأةً وتطوراً وواقعاً، لأنها ديمقراطية اليهود، أولاً وثانياً وعاشراً، وهي ديمقراطية لفئات معينة من هؤلاء اليهود أكثر من فئات أخرى (من حيث الجوهر وليس بالضرورة من حيث المظهر)، وهي ديمقراطية إثنية معادية للعرب، ومعادية لكل "الأغيار" فيها، وهي موجهة ضد الفلسطينيين، أصلاً وعموماً، وضد الفلسطينيين تحت الاحتلال وفي كل مكان، وضد العرب وكل "أغيار" الأرض.
في العقدين الأخيرين مع فارق صارخ في العقد الأخير، لم تعد ديمقراطية إسرائيل تخفي خصوصيتها العنصرية، بل ولم تعد معنيةً بإخفائها، وتحوّل العمل لتعزيزها (أي العنصرية) إلى جدول الأعمال السياسي الذي تجسّد في قانون "القومية"، خصوصاً مع صعود اليمين إلى الحكم مجسداً بالرئيس ترامب. ناهيكم عن كل الممارسات في الأرض الفلسطينية المحتلة.
لكن وبالرغم من أن الديمقراطية العنصرية هي المتصدّرة لكامل المشهد السياسي في مسار تقييد الديمقراطية، إلاّ أن هذا المشهد آخذ بالتغيّر والتغيير ضد "اليهود" أنفسهم، وبما يطالب صُلب البنية الديمقراطية للنظام السياسي في إسرائيل. تحالف اليمين المتطرف ضاق ذرعاً بما تبقّى في إسرائيل من أسس ومرتكزات ديمقراطية في نظامها السياسي، وهو يعمل جاهداً لتقويض هذه الأسس والمرتكزات في السنوات الأخيرة، من خلال تشريعات (بقدر ما هو متاح حتى الآن)، ومن خلال إجراءات تنفيذية متلاحقة تستهدف منظومة القضاء تحديداً.
ثبت، الآن، أن الجنرال الصاعد إلى الهاوية قد وافق وتوافق مع برنامج اليمين المتطرف في إسرائيل، ولم يتمكن في هذه النقطة الجوهرية والمفصلية أن يمنع انهيار منظومة القضاء فيها.
ثبت وتبيّن أن الجنرال الصاعد إلى الهاوية لم "يصمد" حتى في هذه المعركة الوحيدة والأخيرة.
لهذا فإن السنة والنصف هي الفرصة التي ستجعل من منظومة القضاء في إسرائيل تراثاً سياسياً تجاوزه الزمن، وسيكون على الجنرال الهارب أن يُعدّ على مهل طقوس نهايته السياسية.
والفترة الأولى للتناوب ستكون ـ كما أرى ـ هي الفترة الفاصلة بين مرحلة، ما قبل الديمقراطية، وما بعدها في إسرائيل.
وما هي إلاّ عدّة سنوات فقط لحسم هذا الصراع لصالح دكتاتورية يمينية قومية دينية متطرفة وعنصرية.
قد يهمك أيضا :
أتكون صدفة؟
غانتس والصعود إلى الهاوية