بدأ السومريون مغامرتهم الأولى، وبنى من بعدهم الأشوريون والبابليون والكلدانيون أولى الحضارات، وكتبوا بالنقوش المسمارية أهم المسلات، ودونوا عليها قصة الخليقة والطوفان وسطوة سرجون، وانتصارات نبوخذ نصّر، وشريعة حمورابي، وملحمة كلكامش، ولغز عشتار، ومعجزة الحدائق التي ترنو نحو السماء.. ومن بعدهم جاء العباسيون الذين تحدوا الغمام إن استطاع أن يتجاوز حدود ملكهم.
إسهامات العراق في الحضارة الإنسانية لا تدانيها مساهمة.. بيّنة وضّاءة.. وقد ظلت بغداد لسنين طويلة، حاضرة الدنيا وموئل العلم، ومنبع الحكايات والأساطير.. ولكن التاريخ ليس لمن يكتب القصة الأولى بيده، وليس دائما سيرة الملوك وانتصاراتهم، إنه حكايات الناس، ووجعهم، وفيض النهر في كل عام، والحواضر التي شبعت حزنا وكمدا.
والتاريخ أحيانا يكرر نفسه؛ فلم تكن مثلاً عمليات التهجير التي نفذها صدام بحق من وصفهم بالتبعية الفارسية في مستهل «قادسيته»، ولا تلك التي نفذها في آخرها بحق الأكراد مختلفة عما دأب عليه الأشوريون من قبل.. فقد كانت عمليات التهجير المنظمة قد ابتدأت فعليا في عهد الآشوريين، وكانت بمثابة أيديولوجية سياسية للإمبراطوريتين، الأشورية والبابلية.
لكن أحلام البابليين وطموحاتهم تكسرت بسرعة، إذ جاءهم غزوٌ من الشرق وتحديدا من الفرس، الذين احتلوا البلاد، وحيث واصلَ «كورش الفارسي» نفس النهج، ولذات الأهداف، مع تغير في الأساليب وتحويلها من فرض الخوف والرعب بالقوة، إلى محاولات كسب الولاء والطاعة وإقناع الشعوب بالحاكم الجديد، مستخدمين خطابا دوغمائيا، يصور السيد الجديد بأنه المحرر من نير الاستعباد وظلم الحاكم السابق.
ثم جاء «الإسكندر الأكبر»، الفاتح المكدوني الشاب الذي ضاق العالم بحلمه، فنهب كنوز العراق وسبى نساءها، ثم عاد الفرس وتوالى الفاتحون، ولكن سنابك خيلهم عجزت عن قطع نخيل العراق، أو تغيير ملامحه، وكان أهل البلاد في كل مرة يقبضون على الحلم ويتشبثون بالأرض أكثر، ويزرعونها، ويتناسلون. على أرض العراق وقعت معركة «ذي قار»، أولى محاولات العرب في التشكل كأمة، وعلى أرض العراق قُتل رستم في قادسية سعد، وبمقتله أعيد للعراق وجهه العربي، ورُدَّ نهائيا نحو عروبته.
وعلى أرض العراق قُتل الإمام علي غدرا على يد الخوارج بطعنة نجلاء، وكان قبلها قد مات كمداً من نفاق من أعطوه قلوبهم وأعطوا معاوية سيوفهم.. وعلى أرض العراق خاض الإمام آخر معاركه في النهروان والجمل وصفين، وسالت وقتها دماء غزيرة حتى كادت تخلو حدود المسلمين من الجنود، ثم جاء ابنه الحسين ليحفر في كربلاء الشهادة نقشاً أليماً موجعاً، وجرحاً مفتوحاً سيؤلم من بايعوه ثم خذلوه إلى يوم الدين.
وعلى أرض العراق جرت معارك الجلولاء وذات السلاسل والقادسية، وعليها قَتَلَ الرشيدُ البرامكة، وتقاتل المأمون مع أخيه الأمين، وقامت ثورة الزنج التي قُتل فيها خلق كثير، وعليها قام السلاجقة والبويهيون بقتل الخلفاء العباسيين، وعليها نفذ الشاه الصفوي مذابحه ضد السكان في سياق صراعه مع العثمانيين، كما نفذ الانكشاريون مذابحهم بأمر السلطان.
وعلى أرض العراق نشأ علم الكلام، وتُرجمت كتب اليونان، واجترحت أول الاختراعات (العجلة، والشراع، والمحراث)، وازدهر الطب والشعر وعلم الكيمياء، وحكايات السندباد، وقوافل التجار، وظُلْمِ الحجّاج.. وهناك قال المتنبي أجمل أشعاره، وتغنى أبو نواس بالخمر والقيان، وأشهر ابن الراوندي إلحاده، وشكّك المعري والتوحيدي بالبديهيات، وجُلد ابن حنبل، وخطَّ الشافعي كتابه «الأم»، وهناك أيضا وُوري أبو حنيفة الثرى، وصُلب الحلاج، وعاش الأئمة، وأوغل المهدي في غيبته الأخيرة.. وعندما دك المغول حصون بغداد جعلوا ماء دجلة تحار بين الأحمر القاني النازف من البشر، والأسود الداكن المنساب من الكتب.. ومن هناك أيضا بدأ نجم العرب بالخبو، وحضارتهم بالسقوط، وقصة مجدهم بالزوال.. ومن هناك مَرَّ الحسن البصري والجاحظ والفرزدق والأصمعي وابن سينا والرازي، وكذلك العلقمي الذي خان بلاده، وأبو مسلم الخراساني، الذي برقبته آلاف البشر.. وهناك ظهر المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والزيدية والجبرية والقدرية، وهناك أيضا سُحقت ثورات الجياع، وسُفكت أحلام الأمويين والشيعة وآل البيت وحتى الناس البسطاء.. هنالك العراق حيث كل شيء متوقع ومستحيل.
لوحة فسيفسائية مثيرة مدهشة، ودوائر متداخلة، ومصالح متضاربة، وأنساب مختلطة، ومصائر متشابكة، وتاريخ كلٌ يدعي ملكيته الخالصة، توحدٌ يوشك أن يتشظى، وتشظي عصيٌ على التفريق! إنه العراق العظيم.. تداخل الماضي مع الحاضر، وبصمة التاريخ في المستقبل، تزاوج البداوة مع المدنية، والتخلف مع التكنولوجيا، فقر مدقع يضيق به الصدر، وثراء فاحش يحبس الأنفاس، قسوة وغلظة يغلفها كرم حاتمي، حفاوة الاستقبال وألم الغدر، أغانٍ تقطر منها الدموع وطرب صاخب، إقبال على الحياة وهوس مولع بتفاصيل التاريخ! إنه العراق.. عظيم في كل شيء.
تاريخ العراق الطويل، واتساع أراضيه وموقعه الحيوي على حدود التشابك، وانطلاقته المبكرة، وتداول الفاتحين أراضيه وتعاقب الملوك عليه، وتوالي الحروب والغزوات، وحضاراته الغنية.. كل هذا أنتج ثراء ثقافيا، وتنوعا إثنيا ولغويا ومذهبيا فاحشا.
عِرقيا يقسم العراق إلى ساميين وآريـين، ودينيا بين مسلمين ومسيحيين وصابئة وبقايا يهود، ومذهبيا بين سُنة وشيعة، وقوميا بين عرب وأكراد وتركمان، وحضريا بين بدو وفلاحين، وبين مراكز الولايات والبغداديين، وإثنياً يعج بالأقليات، ولغويا يزدحم بلغات أربع على الأقل، تتقاطع كل هذه المسميات ضمن دوائر في مواجهة أخرى؛ في المدن تختلط هذه الدوائر وتمتزج ويتعذر على الإنسان الوافد أن يميز أحدا عن الآخر؛ في شرق العراق وشماله (نينوى وكركوك وديالى) مثلا يتحدث المواطن بلغات عدة، وحسب الطلب، العربية والكردية والفارسية والأشورية والكلدانية ويضيف بعض المثقفين الإنجليزية.. إلا أنهم كلهم عراقيون.. تعايشوا هكذا سلميا آلاف السنين.
بعد الغزو الأميركي، تغيرت هذه الصورة الرائعة، فبكل أسف، توشك تلك الروابط أن تتداعى، وهذا التلاحم الحميم أن ينتهي، ويوشك الأكلة والطامعون أن ينالوا من العراق.
النزعات الطائفية بدأت في العصر العباسي، وكانت تظهر من حين لآخر، ولكنها سرعان ما كانت تنتهي.. ونزعات الانفصال القومية نشطت مع الموجة الاستعمارية.. للعهد الملكي فضل على العراق، إذ ركز على خلق «الهوية العراقية»، التي تستوعب الجميع، والتي يرى فيها كل طرف نفسه بعدالة.. كما أنه رسخ إرهاصات النهضة والتطوير التي ستظهر تجلياتها لاحقا.
ويظل العراق عمقنا الاستراتيجي.. وللموضوع تكملة.
قد يهمك أيضا :
ابن رشد، نظرة مختلفة
عن الفرقة الناجية