موضوعياً كان المفروض أن تكون القمة العربية التاسعة والعشرون في الظهران مركز الحدث والتغطية، والكتابة، ولكن لست أدري إن كان ذلك يستجيب لنداء عقل وقلب الكاتب، الذي لا يرى في هذه القمة، ما يشكل فارقاً مهماً بعد انعقادها عمّا قبل ذلك.
البيان والقرارات جرى تحضيرها كالعادة من قبل وزراء الخارجية العرب، وبالتالي لا داعي للخوض في الاستنتاجات والتوقعات، ولا أظنّ أن ثمة ما يستدعي الاستعجال في تحليل مخرجات القمة، ومدى أهميتها في تغيير الواقع، خاصة بعدما عرف عن مثل هذه المحطات تاريخيا من تناقض بين الأقوال والأفعال، خصوصاً فيما يتصل بالعمل الجماعي.
ثمة قصور شديد في إدراك الزعماء العرب لما ومن يهدد مصالحهم سواء الوطنية أو القومية، ولا أظنّ أن ثمة ملفا واحدا يتفق عليه الزعماء عدا الملف الفلسطيني، الذي يسهل الاتفاق على معالجته نظرياً، وعند التنفيذ، تذهب القرارات في دهاليز السياسات القطرية.
في محاكمة المواقف العربية القطرية أو الجماعية، إزاء عدوان أميركي بريطاني فرنسي على دولة عربية مركزية مثل سورية، نفترض أن الحدّ الأدنى للموقف الموضوعي، هو الصمت، والحقيقة أن المطلوب أكثر من ذلك ولكن يدمي القلب أن نجد عديد الدول العربية، يؤيد ويدعم هذا العدوان، رغم معرفتهم بأنه يصب في مصلحة إسرائيل، وحلفائها الغربيين.
العدوان الذي يثير مخاوف إسرائيل. من ردود فعل النظام السوري وحلفائه، دون المراهنة على دور أميركي قوي في مساندتها، هذا العدوان بدا وكأنه مسرحية هزلية وفق كل المعايير.
لعلّ حصيلة العدوان، تشير إلى أن الدافع لا يخرج عن سياق، تأكيد دور وحضور الولايات المتحدة، ومحاولة سخيفة لإنزال الرئيس ترامب عن أعلى الشجرة التي صعد إليها.
الولايات المتحدة تعلن أنها لم تستهدف إسقاط نظام الأسد، وأنها تتجنب الاحتكاك المباشر بالوجود الروسي، وأن الهدف منع سورية من استخدام الأسلحة الكيماوية ومعاقبتها على ما تدّعي أن النظام في سورية ارتكبه بحق شعبه في مدينة دوما.
الاتهام جاهز، ولا حاجة للولايات المتحدة وحلفائها، لانتظار نتائج التحقيق الذي وصل الجزء الأول من فريقه إلى سورية، وكان سيتبعه فريق ثانٍ لكن العدوان استبق كل ذلك.
الآن عادت فرنسا لتتحدث عن أن مجلس الأمن سيتابع التحقيق في تهمة استخدام الكيماوي، وأنها بصدد تقديم مبادرات سياسية، مع أن هناك إقرارا أميركيا بريطانيا معلنا، بأن العدوان لم يغير من طبيعة اللعبة السياسية.
تغيب اهتمام دول العدوان تماما، عن التحقيق في جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، وهي جرائم مستمرة، عدا أن الملف طافح بالجرائم، أما حين يتعلق الأمر بسورية أو غيرها فإن هذه الدول تبدي حرصاً على القانون الدولي، وعلى حقوق الإنسان.
متى شاءت مصالح هذه الدول، فإنها تقوم بممارسة العدوان باسم المجتمع الدولي، تماماً كما فعلت في العراق وأفغانستان وليبيا حيث تصرفت خارج إطار القانون الدولي، وخارج إطار قرارات الأمم المتحدة. واضح أن المسألة ليست مسألة قانون دولي، ولا مجتمع دولي، ولا علاقة لها بالحرص على حقوق الإنسان، بقدر علاقتها بالمصالح الأنانية، وبرؤية استعمارية لطريقة التعامل مع المتغيرات الدولية.
الرسالة الأساسية التي حملتها صواريخ "توما هوك" و"كروز" التي ضربت سورية صباح السبت الماضي، كانت موجهة لروسيا التي آثرت الانحناء أمام العاصفة مؤقتاً حتى لا يؤدي إلى مواجهة عسكرية واسعة، كانت التصريحات التي صدرت عن كل الأطراف قبل العدوان تنبئ بها.
في الواقع فإن الولايات المتحدة، تدافع عن مصالحها، والنظام العالمي السابق، الذي تسيّدت على قمته منذ أعلن ذلك الرئيس جورج بوش الأب العام 1991، بعد "حرب الخليج"، وتفكك الاتحاد السوفياتي قبل ذلك بسنتين.
النظام العالمي يمر في مرحلة انتقالية، بين النظام أحادي القطبية الذي تتزعمه الولايات المتحدة، والنظام العالمي متعدد الأقطاب، الذي تتقدم فيه كل من الصين وروسيا للمزاحمة والمنافسة على مصادر القوة والمصالح.
خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وفي غياب التهديد والأعداء المنافسين اخترعت الولايات المتحدة، الإرهاب عدواً للبشرية، وتنطّحت للدفاع عن البشرية في محاربة الإرهاب، ولكن تلك كانت مجرد ذريعة لخوض الحروب من أجل تأكيد مكانتها، وتعزيز مصالحها، وتوسيع رقعة تواجدها العسكري.
انساقت الدول الرأسمالية الغربية وراء ذلك، ولكن عادت لتشكو من أنها لم تحصل على مكانة الشريك في المغانم.
اليوم يحدد ترامب خصوم بلاده الأساسيين، على أنهم الصين وروسيا؛ فالأولى، تشكل منافساً حقيقياً وجدياً على مكانة القوة الاقتصادية الأولى التي احتفظت بها الولايات المتحدة كصاحبة أقوى وأكبر اقتصاد في العالم لعقود طويلة، أما روسيا، فإنها منافس قوي في مجال امتلاك وإنتاج السلاح، وكقوة اقتصادية متنامية.
العدوان الثلاثي المدعوم إسرائيلياً على سورية يشير إلى عودة الاصطفافات القديمة أيام "الحرب الباردة"، ولكن من موقع خضوع أوروبي أكثر من السابق حيث إن ترامب لم يعد يقبل بأن تظل بلاده تتحمل تكاليف الحماية الأمنية لأوروبا، ولا التسامح معها فيما يتعلق بالتعاملات التجارية.
من الواضح أن مسرح الشرق الأوسط، هو المرشح لأن يعبر عن صراع القوى بما أنه الخاصرة الرخوة، المؤهلة للتجاذبات السياسية والصراع على المصالح، ولهذا كانت الرسالة الأميركية، بأن روسيا غير مسموح لها أن تستفرد في سورية، أو أن تتوسع في دورها في المنطقة.
انتهت الضربة بحدود ما جرى، لكنها لم تقفل باب التدخلات والعودة لاستخدام السلاح بذرائع مختلفة، خاصة وأن إسرائيل تتوقع رداً إيرانياً، فيما من غير المتوقع أن تتسامح روسيا، وأن تبتلع الإهانة.