بقلم : رجب أبو سرية
سارع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إلقاء كلمة الاتحاد المعتادة سنوياً، على عجل وقبل أن تقوم بتقديمه رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي، ربما لأنه كان يخشى أن تعود مجدداً إلى عدم السماح له بإلقاء الكلمة أو تأجيلها، كما فعلت من قبل، وتطرق الرجل إلى عدد من المسائل التي يدور حولها الجدل السياسي داخل الولايات المتحدة، بشكل لم يقنع الكثيرين، حيث بدا مرتبكاً ومهزوزاً، ولجأ للكذب الفاضح، ليداري فشله وقلة خبرته السياسية، أو حتى حماقاته وظهوره على هيئة رئيس غير ناضج أو غير متزن أو بأقل تعبير ممكن كرئيس لا يظهر الكثير من الرزانة أو الهيبة الضرورية لمن هم في مكانته.
ويبدو أن الأغلبية الديمقراطية التي تجلس على مقاعد مجلس النواب، أو حتى الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ التي أظهرت له تحديا قبل أيام، قد دفعته إلى ما ظهر عليه من ارتباك، كما لو كان في قاعة محكمة يدافع عن نفسه كمتهم، وكمثل الكثير من القادة الديماغوجيين الذين ظهروا في الماضي، بدأ الرجل يتحدث عن المغامرة الأميركية في القرن العشرين، مشيراً إلى رفع العلم الأميركي قبل خمسين عاماً على سطح القمر، وبعد أن تفاخر بكون بلاده تشكل اليوم أقوى قوة عسكرية في العالم وأول منتج للنفط والغاز، تحدث عن منجزه المتمثل بخفض البطالة إلى أدنى مستوى لها منذ عقود، وحاول أن يثير الخوف كعادته من الخارج وإقناع ممثلي الشعب الأميركي بضرورة الانكفاء والانغلاق على الداخل.
لذا كان حديثه أو دفاعه عن قراراته السياسية في الخارج وهي أصلاً مثار الجدل الداخلي بمثابة دفاع هش وغير مقنع بل وضعيف، فهو عاد للحديث مجدداً عن قراره بسحب قواته من سورية، مدعياً بأنه قد ألحق الهزيمة بداعش مع أن كل الدنيا تعرف من هم الذين هزموا داعش في سورية، حيث تعرف الدنيا كلها بأن ليس أميركا ولا حلفاؤها هم الذين قاتلوها هناك.
ثم يجيء السؤال حول صحة منطقه السياسي بالانسحاب من سورية وأفغانستان فيما هو يعد العدة للتدخل العسكري ربما في فنزويلا، وحتى أنه لو صح ما يقول حول إنعاش الاقتصاد بعد ضخ مليارات الدولارات التي قام بالسطو عليها من دول الخليج العربي، فإنه لم يشر إلى تلك الأبواب التي فتحها حول توتر علاقات بلاده التجارية مع الدول الاقتصادية العظمى من الصين إلى الاتحاد الأوروبي.
لقد دخل الرجل بقدميه إلى حقل ألغام سياسي، فهو يدافع عن سياسته بإغلاق الحدود الجنوبية مع المكسيك، في الوقت الذي يحشر فيه أنفه للتدخل ابعد من ذلك عبر كولومبيا إلى فنزويلا، ولم يفكر للحظة كما لم يشر إلى ما تضطر بلاده إلى دفعه من أثمان مقابل ما يظهر له من نجاحات في معالجة كل الملفات التي تحدث عنها، بما في ذلك قوله بأن بلاده قد ضمنت نحو مائة مليار دولار في موازنة الدفاع من حلفائه في الناتو، حيث كان رد الفعل على ذلك هو اقتراح فرنسا تشكيل قوات دفاع مشتركة للاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت الذي أشار فيه إلى عدو وهمي أفصح عن انزعاجه من تبني "الاشتراكية" في بلاده، ربما كان يقصد كل ما له علاقة بالضمان الاجتماعي أو من نزعة إنسانية تساوي بين المواطنين أو تلك التي تقلص الفجوة بين الفقراء والأغنياء، أو كل ما له علاقة بحقوق الإنسان، فإنه أظهر كما هو حال القادة الذين فتحوا الأبواب للظاهرة النازية والفاشية وحتى الاستعمارية بالقول بأنه لن يعتذر أبدا عن تعزيز المصالح الأميركية، ويقصد بذلك الخارج بالطبع، وهذا إن لم يترافق بالاعتراف للآخرين بالحق المماثل فإنه يتحول إلى نزعة قومية تؤدي إلى الحروب والى إعادة روح التمييز بين القوميات والبشر.
لقد كان خطاب ترامب حول حالة الاتحاد الفدرالي الأميركي بمثابة خطاب إنشائي فيه الكثير من الحماس كما لو أنه ما زال مرشحا انتخابيا، وربما يكون مبعث ذلك هو عدم ثقة الرجل بأنه سيعاد انتخابه مجددا للولاية الثانية، كما حدث مع ثلاثة رؤساء سبقوه (باراك أوباما، جورج بوش الابن وبيل كلينتون)، وحين عرج على الشرق الأوسط، تحدث عن داعش وإيران وملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي.
وقد علّل بالطبع قراره بالانسحاب من سورية بكونه قد انتصر على داعش، مع أن هذا غير صحيح، والصحيح هو أن روسيا هي التي حققت الانتصار في سورية، ومقابل انسحابه الذليل منها، ها هي الدولة العظمى تعود ندا دوليا لأميركا، فتعزز وجودها ليس في سورية فقط، بل وفي الشرق الأوسط كله.
وفي حديثه عن اعقد التحديات التي تواجه أي ملف في الشرق الأوسط، حاول الحصول على تأييد اللوبي الصهيوني، من خلال التذكير بقراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، في حين أنه لم يشر بالطبع إلى الثمن الذي دفعه وما زال مقابل ذلك، ويتمثل في إغلاق أبواب التفاوض أولا وأبواب الحل ثانياً، فحتى محاولته طرح صفقة العصر لم تمر حتى اللحظة، وقراره قد زاد من عزلة أميركا الدولية، وقد ظهر ذلك جليا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي أدانت القرار، في حين أن القرار نفسه لم يكن إلا دعائياً بالنسبة له ولحليفه الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كان مهماً بالنسبة لترامب أن يلقي هذا الخطاب في منتصف ولايته الحالية ليعيد لإدارته قوة دفع فقدتها بعد الانتخابات النصفية للكونغرس التي مني فيها بهزيمة واضحة، وبعد أن تسبب في إحداث أطول إغلاق حكومي عرفته بلاده بسبب رغبته في الحصول على تمويل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك لمنع الهجرة إلى بلاده.
لذا فقط "تسول" الكونغرس بتجاوز الانقسامات الداخلية التي تسببت فيها سياساته الرعناء في كل الاتجاهات، ورفع راية "أمة أميركية واحدة" على طريقة القادة الذين ظهروا عشية الحرب العالمية الثانية، فأججوا المشاعر القومية وفتحوا الأبواب للحرب العالمية، لكن ذلك العصر قد مضى وانتهى، ولن ينجح ترامب في جر العالم لحرب عالمية ثالثة، تكون اقتصادية هذه المرة، ذلك أن العالم يتداخل اليوم ويتوحد على أساس من المساواة بين البشر والقوميات، وليس على الأساس النازي القائم على قاعدة النقاء أو التفوق القومي.