عن الخوف الوجودي
آخر تحديث GMT 17:29:13
 فلسطين اليوم -

عن الخوف الوجودي

 فلسطين اليوم -

عن الخوف الوجودي

عبير بشير
بقلم : عبير بشير

يقف الإنسان مصدوماً أمام ضعفه، يعتقد طوال الوقت أنه مسيطر وقابض على زمام أموره بشدة، يدير دفة أيامه كما يشاء، إلى أن تأتي جائحة تضعه أمام نفسه، ويشاهد حجمه أمام تدابير الكون، فتعتقله داخل منزله الصغير، في أكبر أزمة رهائن عبر التاريخ، دون أن يجد الإنسان من يفاوضه،

فتتغير نظرته للأشياء، التفاصيل اليومية المملة أصبحت مطلباً وأمنية...ساعات العمل اليومية في المكتب، طوابير الانتظار، التسكع في الأسواق المكتظة، ويكتشف المعتقل أن الآخرين ليسوا زواراً ثقيلين، بل إنهم من صلب تفاصيله اليومية التي ستبدو كئيبة وموحشة في غيابهم. في العزل، تصادق الوحدة والهدوء كما لم تفعل من قبل، تفكر أكثر وتتدبر العالم من حولك.

يتحدث مصمم الأزياء العالمي اللبناني إيلي صعب، عن تجربته في الحجر الصحي ببيروت، وهو يرى أنها بكل علاتها وسيئاتها، وحالة الخوف الوجودي، التي اعترته، كانت فترة تأمل إيجابية بالنسبة له «فهي فرصة لاكتشاف ما في دواخلنا من روحانيات وفرصة للراحة والجلوس مع العائلة، بعدما كنا في سباق مع الحياة، وتمضي السنوات بين المطارات والاجتماعات، سنوات النجاح والركض بلا رحمة، فتنسى نفسك وتنسى روحك».

الجوائح أيضاً تجعلنا نقع في فخ الخوف والرهاب والقلق المستمر. مَن منا لم يشاهد أفلام الكوارث والأوبئة؟ ومن منا لم ير كيف يتحول ابن آدم إلى وحش بشري بعد أن يتملكه الخوف، فتظهر غريزة البقاء «أنا ومن بعدي الطوفان» في دواخلنا؟ هذا ما نقلته شبكات التلفزة في متاجر لندن ونيويورك الكبيرة، فترى الأرفف فارغة والناس تتدافع للاستيلاء على ما استطاعت من بضائع.

في زمن «كورونا» الخوف هو المواطن الأول. الخوف على حياتك وحياة عائلتك، الخوف من قاتل سري ومتجول. الجيوش التي تخيف عادة وقعت هذه المرة في الخوف. ألغيت مناورات وأوقفت تدريبات، بعدما اقتحم الزائر الوقح ثكنات الجيوش، وغرف الأساطيل، وبتنا نرى آلاف الأشخاص المذعورين بعضهم من بعض وهم يضعون كمامات على وجوهم في الشوارع والأسواق والمطارات.

وحينما تشاهد فيلم «عدوى» ستفهم كيف يعيد الوباء صياغة سلوك الناس ، وكيف يغير نظامهم الاجتماعي، وحسب الفيلم، فإنه حين يسيطر الوباء، تتحول الجموع المذعورة إلى قوة كاسحة تدمر كل ما شيدته الحضارة الإنسانية، تجتاح الأسواق، وتقتحم المتاجر، والبيوت، كل واحد يسعى للنجاة بنفسه... ما نعتقده نظاماً أخلاقياً لا يصمد أمام جموع الخائفين من الموت!

الشعور بالخوف من الوباء، يستثير مشاعر متباينة، أكثرها شيوعاً الأنانية والفردية والحذر من الآخرين . ورواية «الطاعون» لألبير كامو، تقدم قراءة مفتوحة على مستويات مجازية متعددة عن كل طاعون ممكن... الأفكار الفاشية، الاستنتاجات الدينية والغيبية المغلوطة، حتى الرأسمالية.

وهنالك إشارات مبكرة على أن الحالة العقلية والوجدانية الجمعية قد تدفع بعض المجتمعات للسقوط فريسة أسهل للهلع، وإلى السقوط في فخ «الهلع الجماعي»، مقارنة بشعوب أخرى. وتعود أولى تلك الإشارات الموثقة إلى القرن الثامن عشر، حيث ربط الطبيب الفرنسي فرانسوا تشيكوين غداة موجة الطاعون الكبرى التي ضربت مارسيليا، بين طريقة تعامل مختلف الفئات السكانية مع الخوف من المرض ومقدار انتشاره بينهم، مدعياً وجود نوع من علاقة متبادلة بين الاثنين: الوباء يسبب الهلع، والهلع يتسبب بانتشار الوباء، وحديثا عرف السبب وذلك لأنه يقف وراء نقصان المناعة النفسية والذاتية.

وربما جاءت نتيجة تعرض الشعب الهندي لجائحة انتشار الإنفلونزا نهاية الحرب العالميّة الأولى التي لم تشهد تفشياً في حالة الهلع وتعامل معها بنوع من اللامبالاة، مقبولة نسبياً، مقارنة بالذعر الشامل الذي أصيبت به شبه القارة الهنديّة بأجمعها لدى انتشار الطاعون نهاية القرن التاسع عشر، وقد عزا المؤرخ البريطاني ديفيد آرنولد ذلك إلى سلوك سلطات الاحتلال البريطانيّة. فقد تسببت سلسلة التعليمات المشددة التي فرضتها السلطات للتّعامل مع وباء الطّاعون بانتشار الخوف والهلع الجماعي بين الهنود، وذلك ساهم في انتشار المرض.

وهناك من يرى أن الأخطر لم يأت بعد، فمع العودة البطيئة للاقتصاد والحياة الاجتماعية في العديد من الدول، رغم أن فيروس كورونا ما زال يصول ويجول، ولكن بوتيرة أقل نسبيا، يبدو أن الحديث عن عالم ما بعد «كورونا» ليس ترفاً. ويخشى العديد من الخبراء، من أن تؤدي الاستجابة الفوضوية والمرتبكة، لمعظم الدول الغربية في مواجهة فيروس كورونا، قياساً إلى نظيرتها في الدول ذات النظام المركزي والشمولي، مثل الصين وتايوان، إلى خلق مزاج عالمي، ينحو نحو اعتبار أن الأنظمة الشمولية هي الأفضل لمواجهة الكوارث لأنها تستطيع اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة من دون استشارة أحد... إنها غريزة الخوف.
وغريزة «الخوف على الوجود»، هي فلسفة كتاب هوبز «لفياثان»، و»اللفياثان» حيوان خيالي، ذُكر أنه كان يبتلع البشر والمراكب في أعالي البحار، واستخدمه هوبز كرمز لقلق الوجود الكامن في أعماق النفس البشرية، وكمحرك نشط لمشاعر الخوف لدينا.

رأى هوبز أن أي مجتمع يحتاج إلى «غول» كبير ومخيف، يردع الناس عن العدوان على بعضهم. الخوف من الدولة/ الغول هو الذي يحمي الناس من أشكال الخوف الصغرى، وهو الذي يدفعهم إلى تخليهم عن حريتهم طواعية للسلطة الحاكمة أو إلى العبودية الطوعية، مقابل ضمان أمنهم وسلامتهم، في إطار ما يسمى بالعقد الاجتماعي.

الغول الذي يعنيه توماس هوبز هو الدولة. وهو يرى أنها يجب أن تكون مطلقة وقوية كي تردع كافة رعاياها. أما غول العصر الذي نعنيه فهي «كورونا» أو أي وباء آخر أو أي جائحة.
ونخشى أن لن يجد الناس بأساً في الاستسلام لحكومة أكثر تغولاً، إذا أثبتت قدرتها على دحر غول «كورونا» بعد أن فشلت الحكومات الليبرالية، في احتواء قلق الوجود المهيمن على نفوس الناس.

قد يهمك أيضا : 

  عن نظامنا البيئي الهش

  عن تغيير النظام الاقتصادي اللبناني

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الخوف الوجودي عن الخوف الوجودي



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 12:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 فلسطين اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 17:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفل بـ40 عامًا من الابتكار في مهرجان "نيسمو" الـ25
 فلسطين اليوم - "نيسان" تحتفل بـ40 عامًا من الابتكار في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 08:51 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 21:38 2020 الأحد ,03 أيار / مايو

حاذر التدخل في شؤون الآخرين

GMT 06:51 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحمل" في كانون الأول 2019

GMT 07:28 2020 الخميس ,18 حزيران / يونيو

«الهلال الشيعي» و«القوس العثماني»

GMT 01:18 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة "أيقونة" رفع الأثقال بعد صراع مع المرض

GMT 22:54 2016 الجمعة ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أصحاب دور العرض يتجهون إلى رفع "عمود فقرى" من السينما

GMT 10:32 2020 الأربعاء ,20 أيار / مايو

فساتين خطوبة للممتلئات بوحي من النجمات

GMT 16:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

أحدث تصاميم ديكور لحدائق المنزل

GMT 17:03 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

اعتقال موظف وعشيقته داخل مقر جماعة في شيشاوة

GMT 12:46 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

العقوبات الأميركية تطال منح الطلاب الفلسطينيين في لبنان
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday