لم يجد الباشا نوري السعيد مكانًا يلتقي فيه مع الشاعر جميل صدقي الزهاوي، سوى مقهى متواضع قرب ساحة الميدان يسمى "قهوة امين".
"وقهوة امين "كانت تضم مصطبات وكراسي قديمة و فونوغراف للأغاني المسجلة ، في وقت لم تكن في بغداد آنذاك نوادٍ او فنادق لائقة يمكن ان يرتادها صفوة المجتمع البغدادي. والغريب في الامر ، ان الزهاوي اعجب بهذا المقهى فاتخذه مقاما له ، ثم ما لبث ان تحول الى منتدى للأدباء والمفكرين، واصبح اسمه (مقهى الزهاوي).
وبحسب المصادر التاريخية ، فان اقدم مقهى في بغداد افتتح في عام 1590 ميلادية في زمن واليها العثماني جغالة زادة سنان باشا وهو ايطالي الأصل وعينه السلطان مراد الثالث وحكم بغداد من 1586وحتى 1590 وسمي بـ (قهوة خان جغان).
واشتهرت بغداد بجانبيها ، الكرخ والرصافة ، بمجالسها العلمية والثقافية والمهنية , حيث يشارك في اقامتها وادارتها العشرات من العلماء والأعيان من ذوي الوجاهة واليسار من المسلمين والمسيحيين واليهود جمعت بينهم النزعة العلمية وحب الثقافة ورعاية المهنة وإدامتها وأصل مصطلح ( المقهى ) هو المجلس أو الديوان وعندما بدأ بتقديم شراب القهوة أطلق على هذا المجلس أو الديوان اسم المقهى أو القهوة ويلفظها عامة الناس" الكهوة" وجمعها "الكهاوي".
ويبين الكاتب زين النقشبندي في كتابه ( تأريخ مقاهي بغداد القديمة ) الصادر عام 2013 عن وزارة الثقافة لمشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية في مقدمته عرفت بغداد المقاهي في العهد العثماني , اذ كان في كل محلة من محلات بغداد مقهى واحد على الاقل أو اكثر حسب عدد سكانها وان اقدم الاشارات التي وصلتنا ماذكره مرتضى نظمي زادة عن أسم اقدم مقهى في بغداد كان قائماً حتى مطلع القرن الحالي يعود الى سنة 999ه - / 1590اذ شيد جغالزادة سنان باشا الذي كان واليا على بغداد، خاناً ومقهى مجاوراً له وسوقاً شهيرة وهذا اول مقهى ذكر بناؤه في
بغداد .
ويقع هذا المقهى في "خان الكمرك" المتصل خلفه بالمدرسة المستنصرية وبابه على الطريق المؤدي الى سوق الخفافين. اما مقهى الخفافين فيقع عند مدخل جامع الخفافين في منطقة المصبغة بالرصافة ، وأستناداً الى ما ذكره الشيخ جلال الحنفي مؤرخ بغداد ، فأن خان الخفافين بني مع بناء المدرسة المستنصرية في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 1233 ميلادية كمسافر خانة ، وقبل أكثر من 300 سنة تحول الخان الى مقهى.
تتوزع أرائكه (تخوته) داخل المقهى ويقدم للزبائن الشاي والنراجيل التي تستخدم التبغ الأصلي الذي كان يجلب من شمال العراق (التتن) ، ولا وجود لوسائل اللهو كالدومينو وغيرها ولا تلفزيون ولا راديو في أجوائه التقليدية.
كان المقهى ملتقى للتجار وأصحاب المهن والأدباء والشعراء وقراء القرآن الكريم عبد الوهاب محمود وعبد الستار الطيار ، وقراء المقام يوسف عمر وعبد الجبار العباسي وقدوري النجار.
ويقال أن الاغنية المشهورة (خدري الجاي خدري عيوني ألمن أخدره) ألفت في المقهى ، ومن رواده معروف الرصافي وملا عبود الكرخي ، كما أن الممثل القدير يوسف العاني كان له دور بإبراز المقهى من خلال أعماله التمثيلية والمسرحية.
وفي رمضان يمتلئ المقهى بعد صلاة التراويح وتبدأ لعبة المحيبس الى الفجر تتخللها أكلة البقلاوة ويذهب روادها لأداء صلاة الفجر في جامع الخفافين .
ومن رائحة "تتن النركيلة" والفخم المتقد تحت سماورات الشاي و(قواريه) ، تستطيع ان تستدل على مقهى "حسن عجمي" الذي يعد من اشهر مقاهي شارع الرشيد ويقع مقابل جامع الحيدرخانة من الجهة القريبة من الميدان.
ويتذكر كبار السن من رواد هذا المقهى العتيد ، انه كان ملتقى لوجهاء بغداد حيث يتبادلون الاحاديث والطرائف والنقاشات السياسية والادبية. وكان المقهى مفروشا بالسجاد الاصلي الـ(كاشان) ، تسطع في أرجائه (السماورات) و(القواري) ، وكانت (القنفات) كلها مغطاة بالسجاد وعلى الجدران ايضا سجاجيد.
ومن اشهر رواد هذا المقهى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي كان على معرفة دقيقة بصاحب المقهى حسن عجمي (ابو فلح) الذي كان يكره الضجيج والضوضاء حتى انه منع لعبة (الطاولة).
اما مقهى "البيروتي" فهو من المقاهي القديمة الصيفية ويقع في جانب الكرخ في الجهة اليسرى من جسر الشهداء الحالي ومستأجرها الحاج محمد من اهالي بيروت سكن الكرخ سنة 1315 وتوفي سنة 1334 .
ويقال ان الحاج محمد ليس لبنانيا بل هو عراقي سافر الى بيروت وعند عودته سمي بالبيروتي وكان يلبس الصاية والجراوية وعماله مهرة جدا فمنهم الجايجي والتتنجي وابو البوش حيث كان المقهى مفتوحا من صلاة الفجر وحتى ساعة متأخرة من الليل، وقد هدم هذا المقهى عام 1965.
وامام مقهى "البيروتي" ولكن على الضفة الاخرى من نهر دجلة ، يقبع "مقهى المميز" وكان على اتصال بجسر بغداد القديم (قبل تشييد جسر الشهداء الحالي) ويمتد فيصل بجدار جامع الاصفية وهو من اوقاف عادلة خاتون بنت احمد باشا والي بغداد ويجاور المدرسة المستنصرية.
وشيد متولي جامع العادلية على قسم منه مقهى سميت بـ "قهوة المميز" وكانت مشهورة لموقعها وفعاليتها التي هي اشبه بالمدرسة للموسيقى والفنون والغناء العراقي حيث كان يرتادها المغنون واعلام الموسيقى وعشاق المقام العراقي ويتبارون بالاصوات والانغام والضرب على الالات الموسيقية ، ومن مشاهير المقام احمد زيدان البياتي وحسن الشكرجي.
اصبح هذا المقهى في زمن العثمانيين منتدى رجالات الدولة واعيان الامة ويقضون فيه ساعات الفراغ للاستمتاع بالراحة وحسن الانغام ومن جماله وموقعه الجميل.
وفي جانب الرصافة ايضا ، يقع في شريعة المصبغة ، واحد من اقدم مقاهي بغداد ، ومن اسماء هذا المقهى (مقهى الشط) أو (مقهى التجار) وكان صاحبه حسن صفو ، وله اخ اسمه احمد صفو من اشهر قراء المقام العراقي وكان يغني في المقهى.
اما مقهى (عارف آغا) فيقع في الحيدر خانة بجانب المسجد المسمى بالاسم نفسه وكان يلتقي في هذا المقهى كبار التجار وكبار الساسة والوجهاء والنواب والاعيان ، حيث اتخذه الشاعر معروف الرصافي مجلسا له وارتاده من الساسة ياسين الهاشمي وحكمت سليمان.
وعلى بعد عشرات الامتار من هذا المقهى ، يقع (مقهى سبع) وصاحبه سبع اشهر قهوجي في بغداد ، ويقع المقهى في الميدان ، وكان يستقدم عددا من المغنيات ومنهن (رحلو الملعية جرادة) و(شفيقة الحلبية).
والمعجبون باغنية (يا كهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان) لابد انهم متشوقون لمعرفة سبب هذا الدلال.
فـ "كهوة عزاوي" كانت من اشهر مقاهي بغداد ، حيث تعرض فيها مسرحيات خيال الظل (عيواظ وكركوز) ، كما مثل في هذا المقهى اشهر كوميدي فطري في تلك الحقبة وهو (جعفر آغا لقلق زاده) كما مثلت فيه الفنانة عفيفة اسكندر.
يقع هذا المقهى في باب المعظم قرب جامع الاحمدي ، وقد غنى فيه ايضا اشهر مطربي ذلك العصر امثال نجم الشيخلي ، واحمد زيدان.
وفي شارع المتنبي ، لا يزال مقهى الشابندر صامدا رغم ما اصابه من مآس وخاصة تفجير سيارة مفخخة عام 2007 حيث اعيد ترميمه مع عمليات الترميم التي حظي بها شارع المتنبي.
يقول محمد الخشالي عن مقهاه (الشابندر) " بنى الحاج محمود الشابندر هذه البناية في شارع المتنبي لتكون مطبعة في عام 1910، على غرار مطبعة مدحت باشا ".
وفي هذا المقهى ولدت قصائد وأخرجت كلمات لترى الحياة ، ذلك أن موقعه المطل على دجلة ومبنى القشلة من جهة وعلى مدخل سوق السراي وشارع المتنبي من جهة أخرى جعله الاول بين نظرائه ويكون المقصد الاول والاخير للأدباء والعلماء والمثقفين.
ولا ننسى مقاه اخرى ذات صبغة ادبية وثقافية مثل (مقهى البرازيلية) في شارع الرشيد ويطل على نهر دجلة بالقرب من مبنى اورزدي باك سابقا.
يقع المقهى في محلة المربعة ، وكان مجمعا لطلبة الكليات والطبقة المثقفة والأدباء والشعراء ، وسمي من قبل بعض الأدباء بالمقهى الأرستقراطي نظراً لاستغنائه عن الشاي وتقديمه القهوة والنسكافيه لزبائنه.
ورائحة البن المستورد تجبر رواده على الاستدارة لتناول فنجان القهوة اللذيذة المشهورة والتي يحضّرها (القهوجي) صاحب القهوة على البخار من مرجله الخاص بتحضير القهوة المستورد منذ أربعينيات القرن الماضي.
وقد شهد هذا المقهى المرحلة الذهبية من تاريخه مع جيل الخمسينات الذي قدم أعماله الإبداعية وكرس أسماء أبرز الرواد في مجال الشعر والقصة والرواية مثل بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وغائب طعمة فرمان وغيرهم ، وفي مجال الفن التشكيلي الفنانين جواد سليم وفائق حسن ، تلك الأسماء التي اصبح لها شأنها في الحياة الثقافية العراقية فيما بعد.
اما مقهى (ام كلثوم) والذي اسسه المرحوم (عبدالمعين المصلاوي) فكان مخصصا لسماع اغاني ام كلثوم فقط ومازال لغاية اليوم قائما في مدخل ساحة الميدان.
كان صاحب المقهى متأثراً بأم كلثوم ويحضر حفلاتها وشارك في تشييعها ، والمقهى مليء بصورها حيث تغطي جدرانه وكأنه متحف صغير يمثل مشوارا لمراحل حياتها ، لا تسمع غير أغانيها وجهاز التسجيل لا ينقطع.
ويقال انه عندما توفيت كوكب الشرق عام 1975 أقيمت لها مراسم العزاء لمدة ثلاثة أيام ، وكان ترتيل القرآن الكريم بصوت أم كلثوم نفسها ، ومن رواد المقهى كان محمد القبانجي ويوسف عمر وحسين الأعظمي وحقي الشبلي وجواد سليم وفائق حسن ومحمد القيسي وشعوبي وداخل حسن.
وعلى بعد امتار منه ، وفي ساحة المأمونية مقابل وزارة الدفاع سابقا ، كان مقهى (البلدية) الذي انشأته بلدية بغداد في العهد العثماني وهو ملك لأمانة بغداد ، وكان يرتاده حشد كبير من المثقفين والاعلاميين والطلاب.
في الكرنتينا في الباب المعظم يقع مقهى (ابراهيم عرب) تلك الشخصية البغدادية الذي كان يقص على الناس قصصا غريبة فيها من المغالاة والكذب الابيض ما يجعل الناس يلتفون حوله.
وفي منطقة علاوي الحلة ، كان هناك مقهى (جزيرة العرب) وكان يرتاده التجار والمثقفون ، وهناك مقاه يديرها مطربون مثل مقهى ناصر حكيم المطرب الريفي المعروف وكان يرتاده رواد الطرب الريفي والمطربون والملحنون ، ومكانه قرب سينما بغداد.
وفي الاعظمية ، برزت مجموعة كبيرة من المقاهي الشعبية ومن بينها "مقهى النعمان" ويقع في رأس الحواش قرب سينما الأعظمية ، وهو مقهى جلوس كبار العسكريين والساسة والادباء ووجهاء المنطقة والرياضيين. وجلس في هذا المقهى الرئيس الاسبق عبد السلام عارف بعد خروجه من السجن ، كما كانت تحتضن التيارات القومية.
وهناك مقهى الجسر في السفينة بالأعظمية وأكثر رواده من رياضي المصارعة من أمثال رحومي جاسم وعوسي الأعظمي وكريم الأسود وقاسم السيد وأموري أسماعيل ، كما يجلس فيه المتقاعدون وبعض من وجهاء المنطقة.
وفي الكاظمية برز مقهى نجم ويقع عند عكد السادة في مدخل شارع الشريف الرضي وهو ملتقى الكثير من الأدباء والفنانبن والكتاب ووجهاء الكاظمية ، والمقهى يحفظ الكثير من الذكريات والتواريخ والنوادر.
كان المقهى له مكانة روحية في بغداد ويحمل سحراً خاصاً ، فهو المكان الأنسب للاجتماع بالأصحاب ، فكثير من الناس يشكل ارتياد المقاهي لهم جزءاً مهماً من حياتهم اليومية.اليوم .. اصبحت معظم تلك المقاهي ذكرى لزمن جميل لن يعود ابدا
أرسل تعليقك