واشنطن ـ فلسطين اليوم
لا يخفى على أحد أن اتفاق التجارة الأوروبي/ الأميركي الذي يناقش رسميا منذ صيف عام 2013 بين المفوضية الأوروبية وسلطات الولايات المتحدة الأميركية، أصبح في الأشهر الأخيرة مرفوضًا من قبل قطاعات مدنية ونقابية واقتصادية ألمانية وأوروبية عدة؛ والسبب المباشر هو تعنّت الجانب الأميركي وإصراره على تحديد نوع المحاكم التي ستفصل في النزاعات التي يمكن أن تنشأ بين الشركات الأوروبية ودولها من جهة، والسلطات القانونية الأميركية من جهة أخرى.
ومعروف أن القوانين الأميركية قاسية ومكلفة جدا ولا مثيل لها في العالم، خصوصًا في ما يتعلق بحجم العقوبات المالية التي تفرض على مخالفات ترتكب عن قصد أو من دون قصد من قبل الشركات الأجنبية. والمثال الأخير على ذلك قرار محكمة أميركية تغريم "فولكسفاغن" الألمانية 15 بليون دولار بسبب خدعة عوادم سياراتها المعلنة على أنها صديقة للبيئة وتقلل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، فيما هي مسيئة جدًا للبيئة. وينطبق الأمر ذاته على المصارف، إذ تعاني مصارف أوروبية وألمانية مثل "دويتشه بنك" متاعب كبيرة وغرامات مالية عالية. أما في أوروبا وألمانيا، فلا تخشى الشركات من هذا الأمر الذي قد يؤدي إلى إفلاس الكثير منها. وقرارات المحاكم الأميركية نافذة ولا استئناف فيها خارج الولايات المتحدة، ما ترفضه الشركات والحكومات الأوروبية، وبالتالي المفوضية الأوروبية، رفضًا قاطعًا.
والنقطة الأخرى المختلف عليها بين الجانبين تتعلق بالمواد الغذائية، إذ يرفض الأوروبيون استيراد عدد لا بأس به من هذه المواد المعدّلة جينيًا مثل الذرة، والمعالجة بالمضادات الحيوية مثل اللحوم، وبالفوسفور مثل الدجاج. وتتناقض هذه الوسائل مع ما شرّعه الاتحاد الأوروبي للإنتاج الغذائي في دوله. وكسبت جبهة الرفض المتسعة للاتفاق المذكور شخصية قانونية مرموقة أخيرًا هي الرئيس السابق للمحكمة الدستورية الألمانية العليا هانس يورغن بابير الذي نصح المفاوضين الأوروبيين أخيرًا بوقف المحادثات مع الجانب الأميركي لفترة من الوقت "لأسباب دستورية - سياسية" على حد تعبيره. وقال بابير لصحيفة "هاندلسبلات" الاقتصادية الألمانية: "نظرًا إلى شكوك الرأي العام الكبيرة في الاتفاق، فمن الأفضل إعادة النظر بأهداف المفاوضات وبشكلها وطريقة بحثها ومحتواها". وأضاف أن لدى الرأي العام "شعورًا بأخطار وضع قوانين بصلاحيات واسعة في غياب مشرّع برلماني".
وبعدما دعا إلى إظهار "شفافية أكبر في المفاوضات وإطلاع الرأي العام عليها تلبية لمطلب الكثير من المنظمات غير الحكومية والنقابات"، انتقد التغييرات الجذرية التي سيحدثها مثل هكذا اتفاق على القوانين والتشريعات الوطنية والأوروبية، معتبرًا أن "من غير الممكن تجاهل عدم قدرة المسؤولين المعنيين على ممارسة تأثير عليها". وبموقفه هذا ينضم بابير إلى معسكر منتقدي الاتفاق الأطلسي، وعلى رأسهم وزير الاقتصاد رئيس "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" الألماني زيغمار غابرييل الذي كان أكد أن انطباعه يشير إلى أن المفاوضات "لا تتقدم نحو الأمام"، فيما تستمر المستشارة أنغيلا مركل في المهادنة ولا تعبّر بوضوح عن موقفها الفعلي.
بجانب استمرار الخلاف حول نوع محاكم الفصل في النزاعات، ثمة موضوع آخر متصل به ومختلف عليه في الوقت ذاته، وهو رفض الجانب الأميركي إعطاء الألمان المشاركين في المناقصات الحقوق ذاتها التي يحصل عليها الأميركيون، ما يهدد بفشل الاتفاق. ويشكو الأميركيون من أن الأوروبيين يرفضون إعطاءهم ضمانة خطية بتسهيل دخول العاملين الأميركيين في قطاع الخدمات إلى السوق الأوروبية. وينتظر الكثير من ممثلي الاقتصاد الألماني حصول الأسوأ مع الاتفاق، خصوصًا الشركات الصغيرة والمتوسطة الرافضة له. أما المفوضية الأوروبية التي أجرت أخيرًا جولة جديدة من المفاوضات حوله مع الجانب الأميركي "فلا تعتقد حتى الآن أن الاتفاق أصبح ميتًا". ويرى رئيسها جان كلود يونكر أن "الجزء الأكبر منه"، وليس كله كما أمل الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته ألمانيا قبل شهرين، سيُختتم في كانون الثاني (يناير) 2017، أي قبل نهاية عهده ومغادرته البيت الأبيض.
أرسل تعليقك