في شهر كانون الأول من العام 1977، وبعد أكثر من عام على إقرار الجمعيّة العامة في الأمم المتحدة، إطارا جديدا لمعالجة القضية الفلسطينيّة، وانسحاب القوّات الإسرائيليّة من الأراضي التي احتلتها في العام 1967، حيث أعلنت الجمعيّة العامة عن يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، ليكون يومًا عالميًا للتضامن مع الشعب الفلسطينيّ، وهو ذات اليوم الذي أخذت فيه قرار التقسيم.
في هذا اليوم، يقف العالم المحب للسلام والتحرّر مع الشعب الفلسطينيّ، ومع نضاله العادل من أجل التحرّر والاستقلال ونيل حقوقه في العودة، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف.
وعلى الرغم من إصدار الأمم المتحدة للقرار الشهير رقم 181 قرار التقسيم الذي أعطى للشعب الفلسطينيّ الحق في إقامة دولته المستقلة بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، هذا القرار الذي أجهضته الحركة الصهيونيّة وتواطؤ المرجعيات العربيّة، بحيث تمّ تدمير كيان الشعب الفلسطينيّ وتشريده وحرمانه من إقامة دولته المستقلة، منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من جميع محاولات إسرائيل لإلغاء وجود الشعب الفلسطيني أو عدم الإعتراف بحقوقه أو بتمثيله السياسي الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد، إلا أن كلّ هذه المحاولات قد باءت بالفشل وتمكن الشعب الفلسطيني وعبر تضحياته الغالية من أن يفرض حضوره على الصعيد العربيّ والإقليميّ والدوليّ، ومن تعزيز مشروعية نضاله على أرضه ووطنه.
وتمرّ الذكرى التاسعة والثلاثون ليوم التضامن العالميّ مع الشعب الفلسطينيّ هذه الأيام بعد مسيرة نضاليّة طويلة للشعب الفلسطينيّ قدم فيها شعبنا آلاف الشهداء والجرحى الأسرى، وعشرات آلاف المنازل التي هدّمت والعائلات التي شردت وعشرات آلاف الأشجار التي اقتلعت، بعد نهر من الدم الأحمر القاني، وأعمار تذوب وراء القضبان، وبعد أن اشتعلت المنطقة العربيّة بالحروب ومزقتها الخلافات، بعدما تمردت إسرائيل على القرارات كافة التي أصدرتها الشرعيّة الدولية لإنصاف الشعب الفلسطينيّ، ومضيها في سياسة تهويد الأراضي وفرض الأمر الواقع، وقتل المزيد من الأطفال الفلسطينيّين، كلّ هذا في ظلّ عجز عربيّ رسمي لم تعد تغطيه لا ورقة توت ولا حتى إبرة صنوبر توخزه، وفي ظلّ عجز غير مبرر من القوى الشعبيّة العربيّة المُكثرة من المؤتمرات والبيانات من دون أي فعل حقيقي يعري الأنظمة العربية ويحشرها في ركن الحقيقة.
فما يجري فوق أرضنا الطاهرة فلسطين اليوم لا يقل عنه شأنا ما يجري على أكثر من أرض عربيّة، مما يفاقم من مأزق العرب ويضعهم أمام مسؤولياتهم لأول مرة، بشكل باتت فيه العربدة الإسرائيليّة ترى من كلّ العواصم العربية وهي تنتهك مقدسات المسلمين، الأمر الذي يفرض على الأمة العربيّة بمستوياتها الرسمية والشعبيّة، المختلفة النهوض لمواجهة التهديدات والأخطار الجسيمة التي تواجه حاضرهم ومستقبلهم، حيث تقتضي كلّ عوامل الأخوة والدين المشترك والمصالح المشتركة والمصير الواحد أن يتضامن العرب لمساندة ودعم النضال المشروع للشعب الفلسطيني .
كما تمر الذكرى وشعبنا وقواه المناضلة تواجه أشرس عدوان صهيوني متواصل بكافة الأشكال والأساليب وأكثرها دموية وإرهابية وعنفا منذ قرن من الزمان، حيث تواصل إسرائيل جرائمها وممارساتها الوحشية واللا أخلاقية واللا إنسانية ضد شعبنا وأهلنا في الأراضي الفلسطينية كافة وإن تعددت أسا لبيها فان أهدافها واحدة.
هذه الجرائم إنما تحمل في طياتها أبعادا خطيرة وتمثل انعكاسًا لإخفاقات حكومة نتنياهو وتعميق مأزقها السياسي والأمني بفعل المقاومة الباسلة، والصمود الأسطوري لشعبنا وحركته الوطنية والإسلاميّة في القدس وفي بقية الأراضي الفلسطينيّة المحتلة.
إن ممارسات نتنياهو التي تشهد على دموية ووحشية الحكومة الصهيونية التي تحاول من خلال استمرار عمليات القتل والتدمير والاغتيالات والاعتقال والحصار المتواصل أن توصل الحالة الفلسطينية الثائرة والمناضلة الى مرحلة الياس والاستسلام، لكن وقائع وتطورات الأحداث تؤكد أن المحن ومهما كانت قاسية تساعد شعبنا وتدفعه إلى المزيد من التلاحم والوحدة والتكاتف وتصعيد كل آليات النضال لإفشال هذه المخططات، فقوافل الشهداء تزيد من قوة شعبنا وتعمق من التزاماته بخياراته الأساسية لوأد الاطماع الصهيونية ونحطيمها على صخرة هذا الصمود الأسطوري الرائع .
ولعلنا لا نخالف الحقيقة حين نقول إن التطورات الميدانية رغم فداحتها على شعبنا لكنها تقدم يوميا الدليل على تعمق المأزق السياسي والعسكري والأخلاقي لمجرمي هذا القرن الذين يمارسون بدعم وإسناد من الإدارة الأمريكية كل صنوف الإرهاب والعنصرية ويعتدون بشكل ممنهج ومتواصل على إرادة المجتمع الدولي.
أمام هذه الجرائم الفظيعة التي ترتكبها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الأعزل بات من المسلم به أن الكيان الصهيوني ليست لديه أية تقاليد حضارية فهو لايعترف بأي ميثاق أخلاقي ولايحترم شرعة حقوق الانسان، فإسرائيل تحدت العالم بأجمعه بارتكابها أبشع المجازر في الأراضي الفلسطينية وعلى امتداد سنوات احتلالها، ولم تستجيب لنداءات المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية لإيقاف اجتياحها للأراضي الفلسطينية.
لقد بات من الأكيد أنه على جميع الأحرار والشرفاء في العالم وعلى جميع منظمات وهيئات المجتمع الدولي الإنسانية التحرك لفضح جرائم إسرائيل الدموية وعزلها على الساحة الدولية في كافة المحافل.
إن يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني هو يوم تعزيز التضامن العربي والدولي مع حقوق شعبنا، وهو يوم تجسيد الوحدة الوطنية دفاعا عن هذه الحقوق، وهو يوم تأكيد إخلاص جماهيرنا لقيم الحرية والنضال التي ضحى من أجلها الآلاف من الشهداء والجرحى، والتي زجّ بسببها عشرات آلاف المعتقلين في السجون الإسرائيلية والعربية، وهو يوم تأكيد استمرار الانتفاضة الشعبية دفاعا عن هذه الحقوق وإفشالا لكل محاولات تركيعها وهزيمتها من إسرائيل.
إن رسالة كفاح ونضال الشعب الفلسطينيّ هي رسالة سلام وحرية، سلام متوازن يقوم على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وضمان الحقوق المشروعة والأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني، ونرى ضرورة أن يقف المخلصين لقضايا الوطن والشعوب وحقها المشروع في المقاومة والحرية والاستقلال ليوحدوا صفوفهم وجهودهم لمواجهة التحديات والإنتهاكات المتواصلة لشرعة حقوق الإنسان والالتزام بالأعراف والمواثيق الدولية، فشعبنا في صراعه مع الكيان الصهيوني الغاصب يمضي في شق الطريق للعرب وللبشرية أجمع لاستشراف المستقبل، والأمل والتفاؤل للشعوب المضطهدة بغد مشرق وبعالم تسوده علاقات الأخوة والإحترام المتبادل على أساس الاختيار الحر للشعوب في حاضرها ومستقبلها، بعيدًا عن سياسة التدخل والاملاءات الخارجية، والكف عن سياسة التهديد والتلويح بالعدوان على شعبنا وأمّتنا العربية وبقية شعوب العالم، ولا نشك بأن النصر هو حليف الشعوب الفخورة بانتمائها للأرض التي خرجت قوافل الشهداء والمناضلين البواسل.
اليوم ومن جديد نسمع بعض الأصوات الداعية إلى تنشيط التحركات والمبادرات الدوليّة للبحث عن صيغ حلول مع اسرائيل، مع أن شعبنا قد قال كلمته وعمدها بدمائه برفض العودة الى الصيغة السابقة للمفاوضات العقيمة التي انتهت الى الطريق المسدود وانهارت إلى غير رجعة، إن شق طريق السلام الحقيقي يتطلب تغييرًا جوهريًا في صيغة العملية التفاوضية بما يضمن أولا: حق شعبنا المشروع في استمرار المقاومة طالما بقي الاختلال قائما على أرضنا.
وثانيا: تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ونبذ أية محاولة للمساومة أو الالتفاف عليها أو إعادة التفاوض حولها.
وثالثا: كسر الإحتكار الأميركي لعملية السلام بوضعها تحت الإشراف الدولي والجماعي للأمم المتحدة بمشاركة سائر القوى الدولية وفي مقدمتها الإتحاد الأوروبي .
إن هذه الصيغة مدعومة بالتضامن العربي والإسلامي والدولي مع شعبنا هي وحدها الكفيلة بالوصول إلى سلام حقيقي متوازن يضمن انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وإزالة المستوطنات وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس .
إننا ننظر بعين المرارة إلى تراجع التأييد الدولي والعربي لحق شعبنا ونضاله والى الصمت المخجل للرأي العام العالمي أمام إصرار إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة على الضرب بعرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية، وهي تستند بذلك الى دعم أميركي مطلق وتستغل صمت الرأي العام نفسه، ففي الوقت الذي يتمسك فيه الفلسطينيون بالقوانين والقرارات الدولية فإن إسرائيل تواصل اعتداءها على هذا الشعب، وتستمر في تجاهل الاتفاقيات التي وقعت عليها أو كانت طرفا فيها، على مدى الأعوام الماضية، ومن هنا ينبغي الإنتباه إلى أن هذا اليوم للتضامن مع الشعب الفلسطيني بات يفقد معناه ويفتقر إلى الجدية والفاعلية التي يتوخاها شعبنا الذي ينظر بقلق إلى هذه الحالة على اعتبار أن هذا التضامن لم يعد فاعلا ولا مؤثرا ولا نحتاج إلى تقديم أدلة على مدى تراجع مستوى هذا التضامن، وبعد اكثر ثلاثة وعشرون عاما على اتفاقيات السلام، والتضحيات الغالية التي قدمها شعبنا فان الرد الذي يستجيب به المجتمع الدولي حتى اللحظة على تلك الأحداث يظهر بوضوح وقوع المجتمع الدولي في دائرة الضغط من اللوبي الصهيوني في ظل غياب عربي كامل، ويظهر أن هذا المجتمع يكرر خطاياه وأخطاؤه بحق الشعب الفلسطيني، وتبقى القضايا القانونية الدولية دون استخدام وتظل قرارات الشرعية الدولية التي وقعت عليها ذات القوى الدولية حبيسة الأدراج لأسباب واهية تتعلق برؤية البعض بأن استخدامها قد يتعارض مع الجهود المبذولة لجمع الأطراف في عملية السلام المنهارة أصلا .
إن مجرد المحاولة لجمع الأطراف خارج إطار ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي يساهم في تلطيخ الحدود والخطوط بين القانون الدولي وبين ميزان القوى ويسهل استمرار انتهاك الحقوق الفلسطينيّة.
إن الشعب الفلسطيني يطالب المجتمع الدولي في هذا اليوم، بتوفير الحماية الدولية له واتخاذ إجراءات فورية للجم العدوان والغطرسة الإسرائيلية وتشكيل لجنة تحقيق دولية نزيهة للتحقيق في جرائم الحرب التي اقترفتها إسرائيل، ضد شعبنا ومحاكمة المسؤولين عنها أمام محكمة جنائية دولية، وإرغامها على احترام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
ويبدو من نوافل القول التأكيد في هذه المناسبة على التمسك بحق العودة وبالقرار رقم 194 الصادر عن الأمم المتحدة، وتعزيز الإجماع الوطني على هذا الحق ورفض الشروط الإسرائيلية التي تهدف إلى إلغاءه، وكذلك دعم صمود اللاجئين في المخيمات الفلسطينيّة في الوطن والشتات والعمل على تحسين ظروفهم المعيشية، ورفض مقترحات اتفاقية جنيف وغيرها وما تضمنته من حلول خاصة بقضية اللاجئين، وأهمية تفعيل دور المنظمات غير الحكومية لدعم قضية اللاجئين ودفع الأطراف الدولية المعنية لتحمل مسؤولياتها لتطبيق هذا القرار .
إننا ندعو شعوب العالم وبخاصة شعوب أمتنا العربية والإسلاميّة أن تجعل من هذا اليوم، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني مناسبة لتصعيد تحركها الجماهيري، من أجل دعم نضال شعبنا وأهدافه العادلة، والضغط على عواصم القرار الدوليّ، من أجل دور فاعل للمجتمع الدولي، لإرغام إسرائيل على وقف عدوانها والإقرار بحقوق شعبنا، وأقول لأبناء شعبي أن النصر صبر ساعة وهو آتٍ لا شك.