طهران ـ فلسطين اليوم
باغتت الانتفاضة الشعبية الإيرانية، والاحتجاجات الجماهيرية واسعة النطاق، نظام الملالي في إيران، فالنظام المحكوم بتحالف المرشد علي خامنئي وقادة الحرس الثوري، لم يتوقع أن يشهد ثورة شعبية بهذا الزحم، في وقت تتفاخر فيه زعامته بأن إمبراطوريتهم الإقليمية تتمدد وتتوسع، لفرض هيمنتها على مقدرات العالم العربي وثرواته فالتحالف الذي يتخذ من ولاية الفقيه عباءة له يتدثر بها لارتكاب أبشع الجرائم ضد شعبه، وكل من يرفض هيمنته من الشعب، وقف مبهوتا أمام هتافات المواطنين بسقوط الديكتاتور، في إشارة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، بل زاد الطين بلة بالنسبة إلى النظام وحلفائه مقاطع الفيديو التي بثها المتظاهرون لصور خامنئي والنيران التي أضرموها فيها تلتهمها وسط هتافات المواطنين، لتكشف تلك المقاطع عن كم الغضب الكامن في صدور الإيرانيين، الذي تجلى في صور لمواطنات إيرانيات يقطعن صورة المرشد الأعلى بأسنانهن.
ووسط الفوضى التي عمت المشهد خرق الأحرار التابوهات المحظورة وهزوا أيقونات "إمبراطورية المرشد"، فقد أضرم المتظاهرون النيران في صور خامنئي الذي اعتبروه طاغية العصر، واتهموا الرئيس حسن روحاني بالضعف والخذلان في مواجهة خامنئي والحرس الثوري، وامتد الغضب الشعبي إلى حرق صور قادة عسكرين، سعى النظام عبر ماكينة إعلامية جبارة، إلى تصويرهم على أنهم رموز المد الفارسي لاستعادة الإمبراطورية الغائبة، وأضفى عليهم تبجيلا زائفا باعتبارهم قادة للفيالق الإيرانية وميليشياتها في الأراضي العربية، وتم تضخيم قدراتهم الذاتية، وإنجازاتهم العسكرية، باعتبارهم أساطير تعود إلى زمن فارسي تلاشى من قرون.
وعبر المتظاهرون عما يجول في أنفسهم تجاه هؤلاء القادة وحقيقة موقفهم منهم، فالعداء الشعبي لهم لم يقف عند حدود اتهامهم بالفساد وإفساد الحياة الاقتصادية والسياسية في الدولة والمجتمع، واستيلائهم على ثروات الشعب ونهبها، بل ألقى الأباء والأمهات المشاركون في الاحتجاجات على عاتق هؤلاء القادة العسكريين مسؤولية مقتل الجنود والضباط الإيرانيين في الخارج، ليبنوا لأنفسهم مجدا عسكريا زائفا على أشلاء أبناء شعبهم.
فصور قاسم سليماني، الذي تتغنى به المؤسسة العسكرية الإيرانية، وأتباعها من ميليشيات الحشد الشعبي، ويهتف باسمه عناصر حزب الله في سورية، ويتجول في مدن العراق وسورية وكأنها مستعمرات إيرانية وليست مدنا عربية، لم تجد صوره المعلقة في موطن رأسه في مدينة كرمان، إلا كل إهانة من قبل المتظاهرين الذين انهالوا عليها بصقا وتمزيقا، مواصلين مسيرتهم وهاتفين بسقوط الديكتاتور وحماته من الحرس الثوري.
وطرح مشهد حرق صور قادة الحرس الثوري ورموزه وسخرية المتظاهرين من تحذيراتهم لهم باستخدام القبضة الحديدية لقمع الاحتجاجات، عديدا من التساؤلات، فربما يفهم البعض ويبرر الهتافات العدائية من المواطنين للمرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يحمله كثير من الإيرانيين كل خطايا النظام وخطاياه، أو للرئيس روحاني الذي تبنى ميزانية زادت الفقراء فقرا، لمصالح حفنة من الأغنياء.
لكن لماذا يمتد الغضب الشعبي إلى الحرس الثوري الذي يعتبره النظام أيقونة الثورة الإيرانية ودرع الإمبراطورية وسيفها؟ ألا يجدر بأن يكون الحرس الثوري مفخرة شعبية حقيقية للإيرانيين في ظل ما تدعيه طهران بأنه يحقق الانتصار تلو الآخر على أعداء النظام والشعب؟ أم أن الفطرة الطبيعية للشعب الإيراني تجعله يكتشف حقيقة تلك المؤسسة العسكرية، وأنها لم تعد تحتل بلدانا عربية وحسب، بل باتت تحتل إيران ذاتها؟
فالمتظاهرون يرددون على مواقع التواصل الاجتماعي أن موارد إيران وثرواتها آلت خلال العقود الأربعة الماضية إلى حفنة من قادة الحرس ورجال الدين وبعض السياسيين المنتفعين، وأن أعداء إيران لا يقفون على الحدود، ويحيطون بالبلاد كما يحلو لنظام الملالي الادعاء، بل إن أعداء الشعب الحقيقيين من وجهة نظر الرجال والنساء الذين احتلوا شوارع وميادين المدن الإيرانية، هم قادة الحرس الثوري الذي أضفوا الحماية والمشروعية على نظام زاد جوع الإيرانيين جوعا وفقرهم فقرا وجهلهم جهلا وحرص على عزلتهم دوليا بحائط من الأكاذيب والادعاءات الزائفة.
الدكتور على بهروز المحلل الاقتصادي الإيراني يعتبر أن الغضبة الشعبية الراهنة لا يمكن أن تكون موجهة لمؤسسة واحدة من مؤسسات النظام، بل هي موجهة للنظام ككل، لكن بعض مؤسساته تحظى بالنصيب الأكبر من غضب الشعب، وفي مقدمتها الحرس الثوري، على حد قوله.
ويوضح لـ "الاقتصادية"، أن "الكراهية الشعبية للحرس الثوري تكمن في ارتباط قادته بجل قضايا الفساد إلى تشهدها البلاد، فبدلا من أن يكون مؤسسة تسهم في زيادة ثروات الإيرانيين عبر تطوير صناعات عسكرية قابلة للتصدير، بات الحرس رمزا لنهب ثروات الشعب وإهدارها عبر دعم شبكات الإرهاب في الإقليم، فالنفوذ الاقتصادي والمالي للحرس الثوري تضخم بطريقة تعوق أي جهود حقيقية لإصلاح النظام الاقتصادي، وأفشل استفادة الشعب الإيراني من رفع العقوبات الدولية".
وحول آليات الفساد داخل مؤسسة الحرس الثوري، يرصد الدكتور على بهروز محورين أساسيين في هذا المجال ويؤكد أن" مؤسسة الحرس الثوري نمت وتشعبت في أعقاب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بطريقة جعلت منها أخطبوطا اقتصاديا، كثير من أذرعته تعمل خارج إيران، وعلى الرغم من وجود أرقام وميزانيات رسمية للحرس الثوري، إلا أنها لا تعكس حقيقة الوضع، بل صممت بهدف التغطية على الموارد المالية التي يهيمن عليها الحرس الثوري وتراوح بين 100-150 مليار دولار أمريكي".
ويشير بهروز إلى أن الجانب الأول لفساد الحرس الثوري ينجم عن هيمنته الاقتصادية على مفاصل الاقتصاد الوطني عبر أكبر شركاته وهي مجموعة "خاتم الأنبياء" القابضة التي تتبعها مجموعة من الشركات العاملة في مجالات استراتيجية حساسة مثل التنجيم والثروة المعدنية والصناعات البتروكيماوية وغيرها من القطاعات، ومع غياب المحاسبة أو الشفافية المجتمعية، فإن عمليات التوظيف في تلك الشركات تكون حصرا على قادة الحرس بعد التقاعد وأبنائهم وأقاربهم، وعبر إداراتهم لتلك الشركات وما يحصلون عليه من رواتب مبالغ فيها وعمولات، ازداد ثراء قادة المؤسسة بطريقة باتت فجة في أعين الشعب الإيراني، أما المحور الثاني الذي أسهم في تفشي الفساد بين قادة الحرس الثوري فهو الدعم الإيراني المتواصل للإرهاب، الذي مثل استنزافا للموارد والاحتياطات المالية للبلاد.
وفي الحقيقة، فإن ملف الدعم المالي الذي يقدمه الحرس الثوري للميليشيات والحركات والمجموعات الإرهابية في العالم العربي، يظل واحدا من أكثر الملفات غموضا وسرية في إيران.
فلا توجد أرقام رسمية في هذا المجال، ولا تسجل الأرقام في الميزانيات الحكومية أو ميزانيات الحرس الثوري، ويتخذ قادة الحرس وأجهزة المخابرات الإيرانية عادة من دواعي الأمن القومي مبررا لعدم التطرق من قريب أو بعيد لتلك الأرقام، إلا لمجموعة محدودة للغاية من النخبة شديدة الولاء للحرس وللمرشد الأعلى.
إلا أن أكثر التقديرات تحفظا من قبل أجهزة المخابرات العالمية، تشير إلى أن حزب الله يحصل بمفرده على ما يوازي مليار دولار سنويا مساندة من إيران، بينما يتكفل الحرس الثوري بشكل مباشر بدفع أجور ورواتب 50 ألف مقاتل تابعين لحزب الله بعضهم في سورية وآخرون في لبنان والعراق، إضافة إلى إمدادهم بالعتاد والسلاح يوميا، وبالطبع تحمل رواتب الضباط والجنود الإيرانيين الذين يقاتلون في سورية تحت مسمى خبراء عسكرين.
وقد قامت المصارف الإيرانية المملوكة للدولة بفتح خط ائتماني لمصلحة النظام السوري بقيمة 4.6 مليار دولار، لمساندته في دفع رواتب العاملين في الدولة السورية، بينما قدرت قيمة المساندة المالية التي قدمت لدعم القدرة القتالية لنظام بشار الأسد خلال السنوات الأربع الأولى من عمر الثورة السورية بنحو 35 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم للغاية آخذا في الاعتبار أن الميزانية العسكرية الإيرانية السنوية نحو 15 مليار دولار، في الوقت ذاته يقوم الحرس بتمويل حركة حماس والجهاد الإسلامي بما يزيد على 100 مليون دولار سنويا، وكان من المخطط زيادتها بعد التعهدات التي قدمها قاسم سليماني لقادة حماس خلال اجتماعه بهم أخيرا.
الدكتور أرون سان أستاذ النظم السياسية، يعتبر أن الغضب الشعبي الراهن يعكس تراكم الغليان من الإهدار غير المبرر لموارد إيران المالية، في مغامرات خارجية ودعم أنظمة قمعية وميليشيات وحركات لا تتمتع بتأييد شعبي حقيقي بين أبناء وطنها ويضيف لـ "الاقتصادية"، أنه "في الحقيقة وقبل توقيع الاتفاق النووي، اعتادت طهران على دعم نظام الأسد ماليا وعسكريا، واعتادت أيضا تقديم الدعم لحزب الله اللبناني، وقد أثار ذلك بعض التساؤلات داخل النخبة الحاكمة بشأن من المستفيد فعليا من التكلفة الناجمة عن ضخ مليارات الدولار لنظام دمشق وحزب الله، لكن مع اندلاع الثورة السورية واتساع رقعتها ومشاركة حزب الله بشكل مباشر كميليشيات خارجية لقمع الشعب السوري، اتسع نطاق التساؤلات وخرج من إطار الدائرة الصغيرة إلى الشارع، خاصة مع عودة جثث الضباط والجنود الإيرانيين القتلى في سورية".
وأشار سان، إلى أن التساؤلات لم تقف فقط عند نطاق التكلفة، إذ صاحبها تزايد في قناعات شباب الطبقة المتوسطة العاطل عن العمل، باستغلال كبار القادة في الحرس الثوري الوضع لتحقيق مكاسب مالية خاصة بهم، خاصة بعد رفع العقوبات الدولية عن إيران، وقيام إدارة أوباما بمنح إيران مئات الملايين من الدولارات بعضها نقدا، واستيلاء الحرس الثوري على جزء كبير منها، بدعوى تمويل عملياته العسكرية في الخارج، لإنقاذ نظام الأسد وتطوير البنية العسكرية لحزب الله، وتشكيل ميليشيات الحشد الشعبي، وتمويل الحوثي في إيران، تلك المساعدات المالية من الحرس الثوري لتلك الميليشيات لا تسجل أو تخضع لمحاسبة الدولة الإيرانية، إنما تتم عملية المراقبة من داخل الحرس الثوري ذاته، وحيث إن الجميع مستفيد من عملية الإثراء غير المشروع تلك".
واستطرد سان قائلا "إن التربية العسكرية داخل الحرس، تحول دون التقدم بشكوى ضد القادة الفاسدين، فقد تبلورت ثقافة تستنزف موارد الدولة الإيرانية لمصلحة الحرس الثوري كمؤسسة، واستنزاف موارد الحرس لمصلحة نخبة ضيقة للغاية، خاصة قادة فيلق القدس المسؤول عن العمليات الخارجية، وقد أوجد هذا مناخا من الكراهية الشعبية تجاه الحرس الثوري، الذي يزداد ثراء في وقت تشير فيه التقديرات إلى أن أبناء الطبقة المتوسطة الإيرانية وضعهم الاقتصادي الآن أسوأ بنسبة 15 في المائة مقارنة بما كانوا عليه قبل عشر سنوات".
وفي الواقع فإن مشكلات النظام الاقتصادي الإيراني مشكلات بنيوية، وعديد من ركائز البنية الاقتصادية لإيران ما بعد ثورة الخميني فاسدة نتيجة لإعلاء الولاء على الكفاءة، إلا أن الوضع تفاقم في ظل حكومة الرئيس روحاني، لرفض الحرس الثوري أي برنامج إصلاحي حقيقي يقلص من صلاحياته أو الموارد المخصصة له، إذ أقر روحاني الشهر الماضي زيادة ميزانية الحرس الثوري المخصصة لبرنامج الصواريخ الباليستية والحملات العسكرية الخارجية على أمل أن يكون ذلك مدخلا لجهود تقليص المصالح الاقتصادية للحرس الثوري، إلا ان قادة الحرس رفضوا تمام المساومة على مميزاتهم الاقتصادية".
وترى الدكتورة شرين صفاري المختصة في الاقتصاد الإيراني أن النظام الإيراني الآن على مفترق طرق، وأن الأمر لا يتعلق باستمرار الاحتجاجات أو قمعها، إنما بالرسالة التي تم إرسالها من قبل المتظاهرين وتضيف لـ "الاقتصادية"، أن "الحرس الثوري قام بشكل متعمد ومخطط له بدقة ليتدخل في شؤون الدول العربية، وتأجيج حدة الصراعات العسكرية، وإشعال المنطقة، فقد ظن قادته أن ذلك سيعد وسيلة فعالة للاستحواذ على مزيد من الصلاحيات والموارد المالية، باعتبار أنهم يخوضون هم وأتباعهم معركة للدفاع عن الثورة الإيرانية، وأنهم يصدرون هذا النموذج لدول الجوار، وقد سمح ذلك بعدم محاسبتهم على الإثراء الذي حققوه خلال السنوات الخمس الأخيرة
لكن هذا الوضع أوجد أيضا ضغوطا اقتصادية داخلية خاصة على الفئات الشابة، التي ساد لديها شعور بأن توسع الحرس الثوري لا يمت بصلة لمخاطر الأمن القومي، إنما يتخذ ذريعة لتبرير استنزاف الموارد لمصلحة المؤسسة العسكرية الأولى في البلاد"
وتشير صفاري إلى أن "الاحتجاجات الشعبية وضعت الحرس الثوري في مآزق، "فاذا واصل دعمه لميليشيات الحوثي وحزب الله والحشد الشعبي ونظام بشار الأسد، فانه يصب مزيدا من الزيت على النار، والقطاعات التي دعمت الثورة الشعبية عبر التزامها الصمت، سرعان ما ستنضم لموجة الاحتجاجات نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية، أما إذا قلص الحرس الثوري دعمه لأنصاره في الخارج، ولوجوده العسكري، فإنه يعلم تماما أن تلك الميليشيات لن تستطيع الصمود طويلا بمفردها في مواجهة خصومها، وهو ما قد ينبئ بأن النظام الإيراني سيواجه أوقاتا عصيبة، ستشهد تناحرا سياسيا وماليا بين الحرس الثوري كمؤسسة من جانب، والحكومة من جانب آخر، وكذلك تناحرا داخل الحرس الثوري ذاته للتنافس على كعكة الموارد المالية الخاصة به التي يتوقع أن تتقلص مستقبلا".