القاهرة ـ أ ش أ
في كتابه "الظلم وانعكاساته على الإنسانية" الصادر ضمن سلسلة "كتاب الأمة" القطرية، يبحر الباحث للدكتور عثمان غنيم في استكناه وتتبع مفردة الظلم بكل ايحاءاتها وانعكاساتها وظلالها، فيرى أنها أس البلاء الذي اجتاح المجتمعات والأسر ونفسيات الأفراد، وأن شيوعها في وسط مؤذن بالانهيار والشلل والتراجع والتلاشي، ذلك أن الظلم سرطان يستشري في مفاصل الحياة بسرعة النار في الهشيم إذا ما تسنى له الوجود، لأنه نقيض العدل والانسانية والصحة النفسية للفرد والمجتمع على حد سواء.
وتقع الدراسة في 190 صفحة موزعة على تقديم ومقدمة وستة فصول وخاتمة، الفصل الأول بعنوان "الظلم: المفهوم اللغوي والمعنى الشرعي"، وفيه استقصاء شامل ودقيق لتتبع جذر الكلمة وتشعباتها ومعناها اللغوي والدلالي والشرعي، الفصل الثاني بعنوان "الظلم في ميزان الشرع الحنيف"، وفيه تأصيل موسع للظلم من وجهة نظر شرعية، وأنواع الظلم اجتماعيا واقتصاديا وطبقيا.
في الفصل الثالث وعنوانه "القوة والترف والظلم"، وقف الباحث بعمق أمام مفهوم القوة وأصله بالرجوع لآيات القرآن الكريم رابطا بين القوة والترف والعلاقة التبادلية بينهما، متطرقا لأشكال القوة ومصادرها كالقوة المادية والمعنوية والعنكبوتية، مفرقا بين وهن القوة وقوة الوهن.
وكرس الباحث الفصل الرابع للعلاقات الاجتماعية والظلم، مبينا أن مكانة الانسان في المجتمع تتحدد بمقدار الفائدة التي تعود على الناس من عمل هذا الانسان وأسلوب علاقته بالآخرين، ومن هنا يدخل الدين كمكون رئيس وفعال في بنية وتركيب المنظومة الاجتماعية، معرجا على المرتكزات الاساسية للعلاقات الاجتماعية التي تتمثل في الافكار والاشخاص والأشياء، حيث أن منظومة المجتمع الفكرية هي التي تعمل على تقدم المجتمع أو على سكونه وتقهقره، فإذا ما تمحورت أفكار المجتمع حول الاصنام والأشخاص، فذلك إيذان بانفصال الجانب الروحي عن الحياة مما يعزز دور العصبية ويضخم دور الأنا وتصبح ثنائية القوة والضعف هي عنوان الحياة، ويبدأ الناس بالابتعاد عن الفكر والتمحور حول الاشخاص والأشياء ويصبح من ينتقد الظلم والظلمة مجرما، فتتراجع كلمة الحق والجهر بالرأي و ينكفئ المظلوم خوفا ويستكبر الظالم تضخما وغرورا، وتصبح القلة المسيطرة نخب لا تعمل للمجتمع ومتحالفة مع قوى خارجية للحفاظ على مكتسباتها، فيتولد التحاسد والقهر والصراع والرفض والتطرف.
ويناقش الفصل الخامس سسيولوجيا الظلم في مجتمعات الظالمين الذين يعتبر الظالم فيها رأس الهرم وعامة الناس قاعدته، تنبني بينهما العلاقات على القمع والاستبداد، وتسيرها المنفعة والمصلحة، فتنتشر ثقافة التملق والجهل وتمجيد الظالم القوي وتستشري القيم التي تكرس التبعية وإزدواجيات التعامل والتفكير، وتنشأ جماعات وشلليات المصالح وثنائية الريع والسلطة والمركز والهامش وتنتهي بنا وبالمجتمع قاطبة إلى علاقات بيت العنكبوت التي لا تلبث أن تهدم البيت على نفسها وما فيه بعد أن تشكل منظومة الظلم فيها مجموعة من العلائق كعلاقة التبعية وبروز الطرف القوي والطرف الضعيف وازدواجية الدور فيها ونشوء جماعات المصالح وثنائية الريع والسلطة والمركز والهامش وما ينبثق عنها من تبعيات كالتبعية الاستعمارية والمالية الصناعية والتبعية التكنولوجية، وثنائية الانسان والبيئة .
أما كيف واجه الإسلام علاقات التبعية والظلم، فيمكن الوقوف معها برفض القرآن الكريم القاطع وفي آيات كثيرة كل أشكال ومسميات علاقات التبعية والخضوع بين الافراد، من حيث أنها تعمل على انتاج الظلم وتكريس ثقافة الخضوع والطغيان وتساهم بتشكيل مجتمعات الكراهية التي يتمظهر فيها الظلم والفساد، ولعل في تسجيل القرآن للحوار الرائع البليغ بين المستكبرين والظلام من جهة والمستضعفين والجهال من جهة أخرى كما ورد في سورة "سبأ" فى الايات من 30 الى 33 .
ومن هنا، فإن عصمة المجتمع وتحصينه ووقايته من الظلم مسؤولية جماعية على الجميع أن يبادر في الوقوف أمامها بحزم، كما ورد فى سورة "الأنفال"، في الآيتين 24 و25.
كيف لا وقد تمحورت جهود النبوة حول معالجة إشكالية الظلم بمعالجة أسبابه بالتربية وتنمية النزوع للخير في نفوس الناس، والترغيب والترهيب في الثواب على فعله ولجم نوازع الظلم والشر والترهيب من الاقدام عليه، ومسؤولية الانسان عنه، وبناء الرقابة الذاتية والطهارة النفسية هي الآثار الأولى للإيمان بالله، ليظل المرتكز في ذلك كله الايمان –القوة المطلقة، القادرة على اقتلاع الظلم والانتقام من أهله، وتبصير المظلومين بسبيل الخروج من براثنه والتحقق من عدالة الله في ذلك .
ولعل الطريف في هذا الكتاب وقوف الباحث على جانب قد لا ينتبه له الانسان، الا وهو ثنائية الانسان والبيئة وعلاقة ذلك بالظلم، حيث خلق الله سبحانه وتعالى الأرض بما فيها من نعم وخيرات وسخرها لخدمة الانسان، حيث حددت الشريعة أبعاد وطبيعة علاقة الانسان بالبيئة للحيلولة دون الاعتداء عليها وتدميرها، واضعا لذلك القوانين والتعاليم والقواعد.
ويبين الكتاب أن الاعتقاد السائد بأن وجود الموارد في الطبيعة غير محدود هو عين الظلم، وأن هدر الموارد واستنزافها ظلم، وإفتعال وخلق المشاكل البيئية ظلم، وأي صورة من صور الاضرار بالبيئة ظلم، ومن منظور الشرع، فإن موارد الطبيعة محدودة، كما ورد فى الآية رقم 49 من سورة "القمر"، والآية رقم 31 من سورة "الأعراف".
من هنا على البشرية أن تتعاون لإيقاف الظلم عن البيئة واستنزافها من خلال العمل تنظيم العمل الانساني المشترك والتخطيط له بما يعود بالنفع على البشرية قاطبة وهذا أحد وأهم مقاصد الله في عمارة الكون، ولعل اطلالة قصيرة على أرقام ما يهدد البيئة تجعلنا نقف بجدية أمام هذا الخطر: ففي العالم حوالي 9600 نوع للأجناس الحيوانية مهدد 11% منها بالانقراض، وأن نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو قد ارتفعت من 280جزءا في المليون إلى 363 جزءا، وأن النشاط الصناعي قد أدخل في القرن العشرين ملايين الاطنان من الرصاص والزنك والنحاس في البيئة، وأن العالم فقد خلال 1980/1995نحو 200 مليون هكتار من الغابات.