القاهرة ـ أ ش أ
للاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح تجلياته لمن عاش سنوات التكوين في احياء قاهرية كحي شبرا حيث الأنفاس المباركة لثقافة مصرية اصيلة تحتفي بمولد الرسول الكريم والرحمة المهداة للعالمين محمد عليه الصلاة والسلام كما تحتفل بمولد المسيح عيسى ابن مريم العذراء.
إنه هواء مصري يتنفس حبا ومحبة ويمنح بركاته للمكان والبشر ويجيب على اسئلة الصقيع وليل من زمهريرفي ذروة شتاءالعام الجديد وانها بهجة تبدد صقيع الليل ومشاهد احتفالية تمنح بهاء للشوارع والطرقات العتيقة في القاهرة المعزية التي احتفلت مؤخرا بذكرى مولد الحبيب المصطفى.
ثقافة مصرية من نسغ النيل والوجوه الطيبة واتساق الزمان والمكان وتناغم عذوبة الأذان مع اجراس الكنائس في شوارع ودروب من ضياء..مساجد تعانق الكنائس وبشر كل منهم يبحث عن ذاته بين تلافيف الأمكنة والأزمنة وطيور الأماني تحلق في العيون الجريئة والخجلى وتداعب الجميع كل بطريقته.
واذا كانت الثقافة ممارسةاي فعل يومي يمارس على نطاق واسع بطرق واشكال لانهائية فلعل "حي شبرا مصر" العريق الواقع شمال القاهرة هو التجسيد الحي على الأرض لثقافة التسامح ومعنى الاخاء وتلاوين المحبة بين الجميع دون تفرقة ممجوجة بين مسلمين ومسيحيين.
هنا في "شبرا مصر" الفضاء الأبرز للتسامح الطبيعي والحياة الطبيعية بعيدا عن الشعارات والتنظيرات..وهنا في هذا الحي الذي تقطنه اغلبية من الشريحتين الدنيا والمتوسطة للطبقة الوسطى المصرية والذي يحلو للبعض تشبيهه بالحي اللاتيني في باريس مازالت الروح تنبض بالحب والاحتفال بالحياة.
مسجد الخازندار قريب من كنيسة سانت تريزا التي يؤمها مسلمون الى جانب المسيحيين للتبرك بل كان يأتي لها نجوم في الحياة العامة مثل عندليب الغناء الراحل عبد الحليم حافظ.
لاتبدو شبرا مثل بعض الأحياء الجديدة او مناطق الضواحي "ذلك الكائن العملاق المخيف" الذي يتوه فيه القادم من خارج المنطقة فهي رحبة ومرحبة بالجميع وليست "مدينة بلا قلب " فيما تشكل علاقة ابناء الحي بهذه المنطقة قصة مصرية حميمة للغاية.
وفيما افرزت الساحة الثقافية المصرية ادباء شبان يكتبون عن عالم الأقباط مثل هدرا جرجس المولع بالكتابة عن المطارنة والمتدينين من المسيحيين ويغزل الحكايات الشعبية في سرده ضمن مشروع حكي "لابن اسوان" يستلهم من الجنوب حكايات متلفة ومغايرة فان عالم شبرا لايعرف اي نوع من "الجيتو" فهو منفتح على الجميع وللجميع.
لا أحد بمقدوره في الغالب ان يفلت من تأثير المكان وهذا مايتجلى بوضوح في ابداعات هرم الرواية المصرية والعربية اديب نوبل نجيب محفوظ الذي ولد في حي الحسين وعاش في هذا الحي القاهري طفولته وصباه وشبابه الأول.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح في سياق كهذا "من يكتب شبرا ويكتب عن شبرا"؟!..صحيح أن أعمالا درامية ظهرت في التلفزيون والسينما عن حي شبرا لكنها لم ترق لمستوى عبقرية المكان والتاريخ والزمان ومن هنا فان الناقد والكاتب الكبير فاروق عبد القادر وهو ابن شبرا تمنى غير مرة ان يكتب عن هذه المنطقة الفريدة التي عاش فيها لكنه قضي قبل ان يحقق امنيته الابداعية.
فمتى تجد "شبرا مصر" من يكتبها على مستوى يليق بعبقريتها الجغرافية والانسانية ويستخدمها بيئة لعمل ابداعي كبير ويستخدم قاموسها الانساني كما استخدم الحاضر الغائب نجيب محفوظ "قاموس حي الحسين الشعبي" في كثير من الأحيان للتعبير عن افكاره وتجاربه ناهيك عن استخدامه لرمزية "الحارة التي تعادل العالم او الدنيا" و"الفتوات" الذين يمثلون "القوة" ويملؤون ادبه بالحيوية فضلا عن "العنصر الصوفي" بما يولده من نشوة كبرى في النفوس.
واذا كان نجيب محفوظ قد تفوق في لعبة كرة القدم في ساحات وشوارع حي الحسين وكذلك في حي "العباسية" حتى انه قال مازحا:"لقد اضعت مستقبلي الكروي في سبيل الأدب" ففي شبرا وملاعب مدرسة التوفيقية كان المفكر الراحل جمال حمدان في شبابه الأول نجما من نجوم الساحرة المستديرة ولطالما ابدع كرويا حتى انه كان يمكن ان يكون لاعبا نجما بمقاييس ايامنا الحاضرة.
وفي شبرا عاش الموسيقار بليع حمدي ايام الصبا والشباب كما عاش الفنان الكبير حسين رياض والنجمة العالمية داليدا والفنانة الكبيرة ماري منيب وكثير من الأسماء التي توهجت في دنيا الفن وعالم الكتابة.
ومازال كبار السن في منطقة "مسرة" بحي شبرا العريق يتحدثون عن ايام الشباب الأول "لبابا مصر والعرب الراحل شنودة" الذي تظهر صوره في تلك المنطقة وغيرها من ربوع شبرا مصر الزاخرة بالكنائس جنبا الى جنب مع المساجد.
ويستعيد البعض من كبار السن بشجن مقولة للبابا الراحل شنودة "ان مصر وطن يعيش فينا" كما يستعيد هاتيك الأيام من اربعينيات القرن العشرين كان البابا شنودة او "نظير جيد روفائيل" شابا كثير القراءة كما عرف في منطقة مسرة حيث كان يؤسس لخلفيته الثقافية الرفيعة قبل ان ينتمي لذلك الجيل الأول من الرهبان الجامعيين من اصحاب التخصصات العلمية المختلفة ليقود الكنيسة الوطنية المصرية على مدى 41 عاما.
وتحول البابا شنودة دارس التاريخ وصاحب قصائد الشعر وضابط الاحتياط لسنوات بالجيش الوطني المصري الى مدرسة للوطنية المصرية الخالصة والرافضة بقوة وحسم لأي تدخل اجنبي في الشأن المصري الجامع للمصريين مسيحيين ومسلمين وهو الذي تولت سيدات مسلمات في قريته "السلام" بمحافظة اسيوط رضاعته بعد ان توفيت والدته لتتركه رضيعا يتيما ليكون بعد ذلك الأب الحنون لكل المصريين.
والبابا شنودة الذي عاش فترة من حياته في "شبرا مصر" تكاد حياته المديدة تعبر عن حقيقة تتجلى بوهج والق في حي شبرا وهي ان الاقباط المسيحيين مكون اساسي من مكونات البنية المجتمعية المصرية ولايمكن تصور مصر دونهم وانه اذا كان التاريخ حاشد بالمكائد والمخططات الخارجية فانه حافل ايضا بالقامات الوطنية المصرية الشامخة.
وبقدر ماتؤكد الحقائق التاريحية على ان "المسيحية العربية" قدمت للأمة كوكبة مضيئة من المناضلين على مستوى الفكر القومي وحركة المقاومة ضد المشاريع الاستعمارية التقسيمية بقدر ماتشهد على ان البابا شنودة كان مناهضا للاستقواء بالخارج والمحاولات الآثمة لضرب مفاهيم الهوية الوطنية بالغلو الطائفي.
والكنيسة الأرثوذكسية العريقة منذ نشأتها بالأسكندرية في القرن الأول الميلادي باتت حاضنة للوطنية المصرية وقوة من القوى الفاعلة في صياغة "شخصية مصر" وهويتها الثرية والمتعددة المستويات بتراكمات حضارية غنية.
وبذلك فعندما نتحدث عن المصريين ممن يدينون بالمسيحية والذين يستعدون للاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح فالحديث يكون عن مكون مصري اصيل بكل ماتعنيه الكلمة حتى انه لايجوز الحديث عما يسمى "بعنصري الأمة المصرية لأن المصريين في الحقيقة والتاريخ والواقع عنصر واحد" ومن هنا فان المسيحيين في مصر جزء لايتجزأ من نسيجها العضوي وقد يكون ماقاله المفكر الراحل العظيم جمال حمدان في عمله الثقافي الخالد "شخصية مصر" حول دور مصر في نشر المسيحية افضل تعبير عن هذه المسألة.
وهكذا لم يكن "بابا العرب الراحل شنودة" مبالغا بأي حال عندما قال ان "مصر وطن يعيش فينا" وكذلك البابا الحالي تواضروس عندما قال :"ان وطنا بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن" مؤكدا على انه "لو احترقت الكنائس سنصلي في المساجد".
فالشعب المصري "بكل اطيافه ومكوناته نسيج واحد يستعصي على التمزق والفرقة" كما اكد الامام الأكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر الشريف يؤكد في سياق زيارته امس الأول "الاثنين" للكاتدرائية المرقسية بالعباسية لتقديم التهنئة للبابا تواضروس بمناسبة عيد الميلاد.
تلك مفاهيم تنبض بالحياة على الأرض في "شبرا مصر" ودون تنظيرات او فلسفات ونظرة على الانترنت او "الشبكة العنكبوتية" تكشف عن كثير من الكتابات التي تنبض بالحب والحنين "لشبرا" وخاصة لهؤلاء الذين كتب عليهم ان يخرجوا منها ليعيشوا في مناطق اخرى "دون ان تخرج شبرا منهم ابدا".
لايمكن في الأدب مثل بقية العلوم النظرية استخدام التعميم كوسيلة لطرح الاستنباطات او نتائج عملية تحليل تطور الفنون لكن يظل بالامكان ملاحظة مجموعة من "التيمات" والأفكار التي تظهر بقوة في كتابات مرحلة ما ويمكن القول ان قضية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين باتت ظاهرة في عدة اعمال ابداعية سواء في اعمال ورقية او الكترونية لكن الثابت ان "ثقافة شبرا مصر" مطلوبة في مواجهة كثير من التحديات الطارئة.
فنحن نعيش لحظة صعبة تتهاوى فيها الحدود بين الحقيقي والمزيف..بين الجيد والرديء..من هنا يستبد الحنين لثقافة شبرا بالكثيرين ولو لم تكن موجودة لاخترعناها اختراعا لكنها من حسن الحظ موجودة بل ومتجذرة في الوجود المصري.
ولئن كان المسيحيون في مصر لايجوز بأي حال من الأحوال وصفهم بالأقلية فان مخطط الشر الذي تتوالى شواهده المشئومة في المنطقة العربية تولي للأقليات دورا واضحا في عملية تفتيت الدول وتقسيم الأوطان بينما تمضي جماعات الظلام العميلة في استهداف تلك الأقليات كجزء من هذا المخطط كما هو واضح في حالة تنظيم داعش الدموي بالمشرق العربي.
وهاهي التقارير والطروحات تتوالى في الصحف ووسائل الاعلام حول الأوضاع الصعبة التي يعاني منها المسيحيون في مناطق يستهدفها تنظيم داعش بسوريا والعراق ليكون هذا التنظيم الارهابي رأس حربة في مخططات الشر وخرائط الدم والدمار والترحيل والتهجير بقدر مايشكل النفيض لثقافة المحبة والتسامح التي تتجلى كأوضح مايكون في منطقة قاهرية مثل "شبرا مصر".
بأي كلمات نتحدث عن "شبرا مصر" عاشقة الحياة المحبة للجميع..ترافقنا على لعب وافترعنا اوجها للحلم وكان الحلم مصريا مصريا ..وهذه روعة "شبرا مصر" وروعة مصر ككل وروعة اللحظة المصرية بتجليات المكان !..لحظة يطرق فيها القدر باب النفس بالعصا المباركة والمثيرة للبهجة ويمنحها الهدية المستحقة كما هي عصا بابا نويل التي ابتدعتها المخيلة الانسانية وصاغها الشاعر الأمريكي كليمنت كلارك مور عام 1823 في قصيدته "عشية عيد الميلاد" ضمن ذاكرة الكريسماس ورأس السنة ويتخيله وهو يطرق ابواب الأطفال بوجهه الطيب الضحوك ويترك لهم هدايا العيد!!.