رواية يوم انتحار عزرائيل

فى التاسع من شهر يوليو الماضى، وقبل يوم واحد من احتفالات دولة الجنوب بذكرى مرور خمسة أعوام على الانفصال عن السودان، تناقلت وسائل إعلامية تقارير عن اندلاع التوتر فى شوارع جوبا عاصمة جنوب السودان، تزامنًا مع الذكرى الخامسة للاستقلال، حيث اندلعت الاشتباكات بين قوات الحكومة والمتمردين السابقين، مما أسفر عن مقتل نحو 150 شخصًا.

خمسة أعوام مرت على الانفصال كان حصيلتها آلاف القتلى وأكثر من مليون لاجئ وبات نحو خمسة ملايين "أى اكثر من ثلث السكان" يعتمدون تمامًا على المساعدات الغذائية الطارئة. المأساة الإنسانية والحرب الأهلية القبلية التى تعيشها دولة جنوب السودان، كانت موضوع رواية "يوم انتحار عزرائيل" للكاتب الشاب آرثر غابرييل ياك، والصادرة حديثا عن "دار العين للنشر " والتوزيع بالقاهرة.

الرواية تكشف مشهدًا جديدًا فى فيلم إفريقيا الدموى الطويل، وتاريخها المتخم بالحروب الأهلية القبلية، بالمجاعات وتشريد الأهالى ونزوحهم القسرى عن بيوتهم وموطنهم، عن تلال الجثث التى تتعفن فى الشوارع لتحمل معها الأوبئة لمن نجا من المذابح الجماعية.

وبطل روايتنا "الكولونيل فرانكو" مجرد بيدق تحركه أطماع السياسيين وانتهازيتهم تستغله كما غيره من جنرالات الحرب فى تصفية الخصوم فى الصراع الدائر بين قبيلتى «الدنكا والنوير» جنوب السودان، لا تنتميان للشمال كما قد يهيئ للقارئ، فبعدما انفض الصراع مع شمال السودان بتفرغ الجنوب لتصفية بعضهم البعض، ذلك الصراع الذى قارب التصفية العرقية بين تلك القبائل.

الكولونيل فرانكو، أربعون عاما قضاها من عمره يقاتل أهله من قبائل النوير، وهو يعتقد خطأ أنه من قبيلة "الدنكا" فوالدته "أشول شول" كانت قد تزوجت بوالده بعدما حملت سفاحا من شخص مجهول لم يعرفه الكولونيل يوما، وإن كان فرانكو قد وقف طويلا أمام التمييز الذى يمارسه والده فى المعاملة بينه وبين شقيقاته البنات "شرح له كيف أن والده المزيف مجوك مجاك كان يقسو عليه، ويميزه عن شقيقاته، عندما كان يشترى لهن ملابس العيد ويتجاهله عمدا".

 فرانكو حتى فى وظيفته فى الجيش أمضى سنوات طويلة فى الظل يسكن الغابة ولا يمتلك حتى منزلا يأويه، بينما رفاقه من الثوار ومنهم الكولونيل "جرمايا" المسئول عن قسم المشتريات فى القيادة العامة، يقودون السيارات اليابانية الفارهة، ويقضون إجازاتهم السنوية فى الخارج، ويقطنون منازل مفروشة بأثاث إيطالى وفرنسى، إلا أن المذبحة التى ارتكبها الكولونيل فرانكو ضد النوير فى قسم شرطة "قوديلى" أهلته للترقى بسرعة استثنائية.

المذبحة التى نفذها جنود الكولونيل وبقيادته ضد قوات المتمردين بأعذار واهية تكاد تكون ملفقة لتصفية النوير، وهى لا تختلف فى كثير أو قليل عما نتابعه يوميا عبر وسائل الإعلام المختلفة من وقائع حقيقية تجرى على أرض القارة السمراء، مخلفة وراءها آلاف القتلى والمشردين من قتل ممنهج، وتصفية عرقية متعمدة فقط لخدمة أجندة السياسيين القذرة، يتحول فيها الجنود إلى آلات قتل بشعة ويتحول الكولونيل فرانكو إلى عزرائيل متجسد فى شخصه يمشى على قدمين يحصد أرواحًا بريئة لا ناقة ولا جمل لها فى صراعات الساسة.

لا يمكنك بأى حال من الأحوال أن تتعاطف مع الكولونيل فرانكو تحت دعاوى بأنه عبدالمأمور كما كان يردد طوال الرواية، فقد كانت أمامه الفرصة للفرار من جنون الدماء والقتل المجانى لكنه رفض مرارًا نصائح صديقه وليم ويلسون حتى عندما عرض عليه فيديو يوثق لمجزرة قسم قوديلي، تجاهله وأغمض عينيه عن الدماء التى أولغ فيها، وحتى فى المسلخ الذى أقامه فى ساحة القسم لم يكن فقط يحث جنوده على المزيد من القتل، إنما شارك فيها حتى أنهكه إطلاق الرصاص من كلاشينكوفه، مما حول ذراعه لجزء من سلاحه بما يشبه شبق القتل إدمانه وتحوله لشهوة جارفة لا يمكنه إيقافها. كان من اللفتات الذكية للسرد السلس تناوله لمرتزقة النضال والثورات من خلال شخصية الكولونيل جرمايا الذى قضى معظم سنوات النضال مندوبا فى أديس أبابا بعيدا عن ساحات القتال، وحتى بعد عودته لم يفعل شيئًا سوى اغتصاب الجنود الصغار وانتهاكهم جنسيا، وعندما انفضح أمره بعد الشكاوى التى رفعها ضباط وحدته إلى القيادة، ما كان من تلك القيادة إلا أن أسندت إليه إدارة قسم المشتريات وصار رجل أعمال فى زى عسكرى دون عقاب لجرائمه، وغيره من مدعى النضال والثورات الجاهزين دائما بجوزات سفر أجنبية وعلى رأسها الجنسية الأمريكية، يلجأون إليها فى أولى لحظات اشتعال الجحيم الذى يخلقونه بأيديهم. امتلك الفزع حيزا كبيرا فى نفوسهم فهرع الكثيرون منهم مستنجدين بسفارات وقنصليات دولهم الأجنبية.

عندما اهتزت طواحين الحرب مزقوا جوازات دولتهم وداسوا عليها، نفضوا غبار أرجلهم وغسلوا أيديهم، متبرئين من دماء الأبرياء المزهقة بلا حساب. كما لم يفت الراوى فضح وكشف دور وسائل الإعلام الأجنبية فى تأجيج الفتن الأهلية والقبلية فى نقاط التناحر الساخنة فى إفريقيا خاصة الإذاعات العالمية الموجهة، فهى تطنطن جذلا وهى تنشر أخبار حشد الجيش الأبيض المتقدم بإصرار صوب مدينة جوبا. كما لم يغفل عن الدور المشين الذى تلعبه قوات الأمم المتحدة فى تلك الصراعات وضلوعها المتحيز ضد أطراف دون الأخرى لتبقى شعلة الحرب ملتهبة للأبد.