بيروت ـ فادي سماحة
غيب الموت الشاعر والأديب الكبير سعيد عقل عن عمر ناهز مائة وعامين، ومن المقرر أن تبدأ مراسم الجنازة والدفن والتعازي بعد ظهر الجمعة من جامعة سيدة اللويزة - ذوق مصبح.
وُلد الراحل الكبير في الرابع من شهر تموز/ يوليو عام 1912 في مدينة زحلة إحدى أقضية البقاع اللبناني، وكانت طفولته مليئة بالوَرْد في ظِلّ أمّ مَلاكٍ وفي كَنَفِ والد كان نَهرًا من نخوة ومن كرم، فنشأ على كثير من الحبّ والدلال، آخذاً عن أمُّه الطَّهارة وعن أبيه روح العطاء، أما عن تاريخ بلدته زحلة فاخذ النخوّة والبطولة.
وكان عقل موهوبًا بإطلالةً فريدةً، ونبوغ أكيد، فتمَّت له النعمّة، وَبَرَز متفوقًا في مدرسة "الإخوة المريّميين" في زحلة، حيث بدأ دراسته حتّى أتمَّ قسمًا من المرحلة الثانوية، وكان يعتزم التخصُّص في الهندسة، إلاّ أنَّه في الخامسة عشرة من عمره خَسِرَ والده خَسارة ماليَّة كبيرة، فاضطرَّ الفتى أن ينصرف عن المدرسة ليتحمّل مسؤولية ضخمة وأعباء بيتٍ عريق. فمارس الصحافة والتعليم في زحلة.
واستقر في بيروت منذ مطلع الثلاثينات وكَتَبَ بجرأة وصراحة في جرائد "البرق" و"المعرض" و"لسان الحال" و"الجريدة" وفي مجلَّة "الصَّيّاد "، ودرّس في مدرسة الآداب العليا، وفي مدرسة الآداب التابعة للأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وفي دار المعلمين، والجامعة اللبنانيّة، كما درّس تاريخ الفكر اللُّبناني في جامعة الرُّوح القُدُس وألقى دروسًا لاهوتيَّةً في معهد اللاّهوت في مار انطونيوس الأشرفية.
وأعطى سعيد عقل ذاته التطلُّب الطَّامح، والرؤيا الكبيرة، والتَّعب على شغل شخصيَّته ورَصْفِها مثلما يُريدها أن تكون كما شُغِف بالنَّزعة المثاليّة والرُّوح الترسّلي وانتدب نفسه شأن الكبار في الدنيا لمهّامَّ جُلّى، فأنشَأ عام 1962 جائزة شعريّة من ماله الخاص قَدْرُها ألفُ ليرة لبنانية تمنح لأفضل صاحب أثر يزيد لبنان والعالم حُبًا وجمالًا.
ومن أبرز آثار الشاعر الراحل في الثَّلاثينات، عام 1935، أطلع سعيد عقل "بنت يَفتاح" المأساة الشَّعرية، وهي أولى مسرحيات لبنان الكلاسيكيّة ذات المستوى، وقد نالت يومئذ جائزة "الجامعة الأدبية" وفي الثَّلاثينات أيضًا انفجرت قصيدته "فخر الدين" المطوَّلة التاريخية الوطنيّة فبرهنت أنَّ الشِعر يقدر أن يؤرّخ ويَظلَّ شعرًا مُضيئًا، وأن يسرد قِصّة، متقيّدًا بالأصول ويظلّ مؤثرًا.
وفي عام 1937 أصدر "المجدلية" التي بمقدّمتها غَيَّرت وجه الشّعر في الشرق، والمجدلية الشّعر قصّة أعطت جديدًا، لقّنت أنّ الشعر سكرة كثيفة الجمال ضوئية، جوهرها موسيقى يتّحد بها الشاعر حميمًا مع الكون.
عام 1944 أطلت مسرحيّة "قدموس"، عمارةً شعرية ذات مقدمّة نثريّة رائعة، وبدأ سعيد عقل يكون مهندس النفس في الأمّة اللبنانية، وكانت "قدموس"، لونًا جديدًا من الملاحم التي تهزّ ضمير الأمّة وتشكّ لبنان على عرش من عروش الشّعر في العالم، وإن يكن سعيد عقل قد سمّاها مأساة.
وأشرقت عام 1950، شمس "رِنْدَلى" وصار الحبّ أحلى، وغدا يخصّصُ له ديوان كامل، ففي غمرة الشعر التقليدي والغزل الإباحيّ الفاحش ردّ سعيد عقل إلى المرأة تاجها، فغدت من بعده تُحبُّ وتُعبَدُ، كَوْكَبَ الغزل النبيل الذي يمكن أن يُقرأ في الكنائس والمساجد، وبعد "رندلى" الشّعر سُمِّيت مئات البنات بهذا الاسم.
عام 1954 صدر له كُتيّب نثري "مُشكلة النخبّة" الذي يطالب فيه سعيد عقل بإعادة النّظر في كلّ شيء من السياسة إلى الفكر والفن، وعام 1960 صدر كتاب "كأس الخمر" وهو يتضمّن مقدّمات وضعها سعيد عقل لكتب منوّعة، وشهد بها لشعراء وناثرين ، مبرزاً مواهبهم، مقيّمًا إنتاجهم، وناهضًا بالنقد الأدبي وبمقدمّات الكتب إلى مستوى نادر في النّثر الحديث.
وفي هذه العام أيضا حكى لبنان كما يجب أن يحكى فصدر له، "لبنان إن حكى" كتاب المجد الذي يعلّم العنفوان والشّهامة، وينشُر أمجاد لبنان بأسلوب قصصي أخّاذ ومضيء، يترجّح بين التاريخ والأسطورة، ويأسرك بجوّ عامر بالبطولة يستثيرك حتى البكاء.
كما صدر أيضًا كتاب "أجمل منك؟ لا... " حاملًا غزلًا يُصلّى به صلاةً بأسلوب ارتفع إلى ذروة المرونة الإنشائية وتنوّع القوافي، كما امتاز بمواكبة التركيب الشعري للموجات النفسيّة في قصائد تشبه السيمفونيّات، وعام 1961 صدر كتاب "يارا" وهو شعر حبّ باللغة اللبنانيَّة، قصائد ولا أجمل تجمع بين البساطة ومُناخ الخمائل، تُكوكب البال وتسكُبُ خمرًا جديدة في كؤوس من زنابق.
وصدر عام 1971 كتاب "أجراس الياسمين" ، وهو شعر يغني الطبيعة بغرابة فريدة وبحدّة حِسّ وذوق، وعام 1972 صدر "كتاب الورد" وهو نثر شعري ذو نفحات حب ناعمات من حبيب الى حبيبته، وهمسات حالمات من قلب حلوة "ينغمش" ويمطر وردًا وياسمينا، وعام1973 صدر كتاب "قصائد من دفترها" شعر حبّ يغني العذريّة والبراءة بكلام من ضوء القمر على تلال لبنان بين الأرز والصنوبر وقد كستها الثلوج يمثل ثوب عروس.
وعام 1973 أيضًا صدر كتاب "دُلزى" قصائد حُبّ من نار وحنين ناعم إنّه كتاب رائع يُكمل نهج "رندلى" بكَلِم من زَهْرِ الجمر مرّةً ، ومن كرِّ الكنار مرَّات، وعام 1974 صدر كتاب "كما الأعمدة" وهو بعلبكّ الشعر وقد سجلت فيه روعة العمار، ودقّة الجمع بين الفخامة والغِوى. ذروة الكلاسيكيّة التي لا تشيخُ، مرصّعةً ببعض اللُقى واللمَع الرمزيّة، وإنَّك لتشهد في هذا الكتاب تخليدًا لكل شاعر تكَّلم عنه سعيد عقل.
وفي هذه القصائد يتحدّى سعيد عقل نفسه مرّة بعد مرةٍ فيعلو على ذاته بخيال يسابق خياله ويمزج بين التراكيب الفصيحة وتراكيب اللغة اللبنانية أحيانًا مما يقرِّب شعره من الحياة ويمنحه نكهة جمالية فريدة، والأعجب في هذا الكتاب أنَّه يرفع المناسبات العاديّة إلى سماء البال وأجواء الشعر اللبناني، ومن كتبه كتاب "خماسيَّات" وهو مجموعة أشعار باللغة اللبنانية والحرف اللبناني وقد صدر عام 1978.
وكتاب خماسيّات الصبا باللغة الفصحى، وقد صدر عام 1992، وهذه الخماسيّات باللغتين اللبنانيّة والفُصحى تمثّل ذُروة الكثافة في المضمون، كما تمثّل التفرُّد العالمي في الشّكل الشِعري الذي يَحبِسُ جزءًا من عمر في عبارات لا طويلة ولا قصيرة، وإنّما هي بمعدّل ما يتوقَّعها السَّمع تنتهي فعلًا ويرتاح الشّاعر حين تنفجر.