بغداد ـ نهال قباني
تشعر قوات البشمركة بعدوهم من أقرب نقطة يمكن الوصول من خلالها إلى معاقل تنظيم "داعش"، وفي معظم الأيام يقذف مقاتلو التنظيم قذائف الهاون أو الرصاص على خط المواجهة الذي يبعد 10 أميال جنوب قرية سنجار ويزحفون أحيانا عبر العشب لساعات عدة ليقتربوا بما يكفي ثم يطلقوا النيران، ويجتمع كبار قادة تنظيم "داعش" بانتظام في القري الخرسانية الرمادية في المقدمة الشمالية التي تعد أكثر زوايا العراق أمنا بالنسبة لهم، وينتقلون عبر البلدات القريبة مثل بيجي وبليج وفقا لما يشاهده الأكراد على الأرض، ويحتفظ مسؤولو المخابرات بعلامات من وجهات نظر أخرى لتتبع أكثر الرجال المطلوبين في العالم " أبو بكر البغدادي".
ويعتقد مسؤولو المخابرات الذين قضوا العامين الماضيين في محاولة لتحديد حركات البغدادي أنه يتحرك داخل قوس ضيق بين شمال غرب العراق وشمال شرق سورية، ويظل في هذه المنطقة على مرمى البصر من الجبهة ويقضي فيها جميع وقته كزعيم نصّب نفسه بنفسه، ولمدة 6 أشهر من هذا الوقت منذ آذار/ مارس الماضي، ويقول المسؤولون الأكراد والغربيين وكبار أعضاء تنظيم "داعش" وأشخاص مقربون من البغدادي إنه لا يترك بلدة بيجي لأنه يتعافي من إصابات خطيرة لحقت به في غارة جوية أصابته. وأوضح ضباط الاستخبارات وقادة البشمركة أنهم متأكدون من أن البغدادي يتحرك على نطاق واسع في جميع أنحاء شمال غرب العراق في الأساببيع الأخيرة لا سيما بالقرب من بلدة بيجي وتلعفر، وأضاف مسؤول كبير في الاستخبارات " إنه يتخذ خطوات كثيرة ويذهب أيضا إلى الموصل"، وفي جنوب الخطوط الأمامية من سنجار التي استعادتها القوات الكردية بمساعدة الضربات الجوية الأمريكية في تشرين الثاني /نوفمبر الماضي يقول الكولونيل خالد حمزة إنه على يقين من أن البغدادي زار بلدة بيجي قبل شهرين، مضيفا " لدينا معلومات دقيقة للغاية من داخل المدينة أنه كان في زيارة هناك إلى الوالي زعيم "داعش" المحلي"، ويقف حمزة خلف ساتر عملاق بُني لوقف إطلاق النار من مواقع تنظيم "داعش" على بعد أقل من ميلين، ويستقر إلى غرب موقع حمزة خزان مياه عملاق أعلى بلدة بيجي يمكن رؤيته في الأفق، وفي المقدمة هناك 3 مقابر جماعية تضم جثث نحو 150 امرأة أيزيدية ممن اعتبرتهم تنظيم "داعش" غير مناسبين ليكونوا عبيدا عندما اجتاحوا سينجار عبر بيجي وبليجي في آب/ أغسطس 2014.
وأضاف حمزة " تدعم البغدادي قبائل هناك وهم مخلصون جدا له، لقد عرفنا بوجوده في البلدة وفي هذا اليوم صادروا كل الهواتف لدى الجميع عند وصوله، ولم يريدوا أي شخص أن يجري مكالمة هاتفية"، وبجانب حمزة هناك قناص البشمركة الذي يستدعي الغارات الجوية ويحدد المواقع من خلال GPS مرتديا ساعة كبيرة تضم شاشة عريضة، ويتم استدعاء الطائرات المقاتلة لمهاجمة أعضاء تنظيم "داعش" إما من خلال الإسراع إلى خط المواجهة على طول الطريق أو الزحف عبر العشب للقنص، وبعد مرور عامين على الحرب ضد التنظيم قُتل أكثر من 15 شخصا من كبار قادته بواسطة الضربات الجوية بما في ذلك نواب البغدادي السابق وهم أبو مسلم التركماني وأبو على الأنباري، وعمر الشيشاني رئيس برنامج الأسلحة الكيميائية للتنظيم في العراق، وأبو مالك وغيره من قادة التنظيم في محافظة الأنبار ونينوى، وفي العام الماضي كاد البغدادي يوشك على الانضمام إليهم.
وكشفت المقابلات التي أجرتها صحيفة "غارديان" خلال العام الجاري عن أن مدى إصابة البغدادي في الغارة الجوية لا تزال واحدة من أكثر أسرار التنظيم، كما تردد أعداؤه في الكشف عن مدى اقترابهم من قتل البغدادي وذلك على ما يبدو لأن الغارة الجوية التي أصابته كانت تستهدف شخصا آخر، وجمعت تحقيقات "غارديان" تفاصيل عن الهجوم على البغدادي وفترة النقاهة التي يقضيها وعودته إلى الظهور آخرا في مجتمعات تنظيم "داعش"، والجهود المكثفة لضمان أن تكون الغارة المقبلة مستهدفة وناجحة، وأكد رئيس الاستخبارات الإقليمية أن البغدادي أصيب بالقرب من بلدة عراقية صغيرة تدعى شورغات على نهر دجلة على بعد 190 ميلا شمال بغداد.
وتواصلت "غارديان" مع 8 مصادر على معرفة مباشرة بإصابة البغدادي، وأوضح جميعهم أنه تعرض لجرح خطير أسفل ظهره ما شلّ حركته لأشهر عدة قبل بدء تعافيه، وأثناء علاجه كان عدد قليل من الأطباء والممرضين فقط يعرفون حالته، وداخل التنظيم نفسه لا يعلم بحالته سوى عدد قليل جدا من القادة، حتى تُرك من كانوا مقربين من البغدادي قبل بدء التنظيم الإرهابي يخمنون سبب غيابه عن التجمعات التي كان من المتوقع وجوده فيها، واعتقد أحد كبار أعضاء تنظيم "داعش" ومسؤولون عراقيون في بغداد في وقت سابق حدوث الغارة الجوية بالقرب من الحدود السورية في 18 آذار/ مارس ، إلا أن غارة شورغات حدثت في نفس الوقت تقريبا ولكن على بعد حوالي 100 ميلا إلى الشرق.
وكان حامد خليلوف من أوزبكستان أحد أعضاء التنظيم البارزين للجيش الأجنبي، ويستقر بالقرب من دابق في سورية مع الشيشاني قائد المجموعة في شمال سورية الذي قُتل في غارة جوية قبل شهرين، واعتقل خليلوف في بليدة بيجي بالقرب من شورغات، وتحدث في آب/ أغسطس الماضي عن مقابلة البغدادي مع الشيشاني بالقرب من شورغات، وفي بيجي شمال غرب العراق حيث كان يتلقى علاجه، وأدلى خليلوف بتفاصيل لقائه مع البغدادي لضابط مخابرات في العراق وأجاب أيضا على أسئلة "غارديان"، وهناك سجين آخر اعتقل قرب شورغات وأدلى بتفاصيل عن إصابة البغدادي لمحققين عراقيين وأميركيين، وهناك رجل ثالث يتواصل بانتظام مع قائد تنظيم "داعش" الذي أصر على عدم ذكر اسمه لحمايته، وتأكدت "غارديان" بشكل مستقل من هوية الرجل، ويعد المصدر الرابع عضو بارز في التنظيم حافظت "غارديان" على اتصال وثيق معه على مدى سنوات عدة.
وتأكدت المعلومات التي قدمها المصادر الأربعة بواسطة مسؤول في المخابرات الإقليمية واثنين من الحكومات الغربية التي توصلت لتفاصيل دقيقة عن الغارة الجوية وتعافي البغدادي، لكن أحدهم لم يضع اسمه مع هذه المعلومات بسبب حساسية علاقتهم مع شركاء الاستخبارات، وأضاف أحد المصادر الاستخباراتية " أعلم أنه مصاب وأنه حادث لكنها ليست إصابة قاتلة، لكنه استغرق وقتا طويلا حتى يمكنه التحرك، ولدينا فكرة أفضل عن تحركاته"، وتابع الدكتور هشام الهاشمي الباحث في شؤون التنظيم الإرهابي " هذا شيء معروف على نطاق واسع حاليا من قبل وكالات الاستخبارات العراقية، واستغرق الأمر وقتا طويلا لتأكيد المعلومات من الأميركيين ولكن هذا حدث حاليا".
ونشرت تفاصيل إصابة البغدادي بين مجتمع المخابرات ذات الأعين الخمسة من بريطانيا وأميركا وأستراليا وكندا ونيوزلندا وبين الشركاء في منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك الأكراد والعراق والسعودية ودول الخليج، ولا تزال هناك فجوة بين ضباط المخابرات الذين يريدون الكشف عن التفاصيل وصناع السياسات الذين لا يريدون ذلك، وتمحور النقاش حول حكم الرأي العام إذا ما تم الكشف عن معلومات عن هجوم فاشلو غير مقصود، وذكر مسؤول كبير على دراية كاملة بما حدث " لا يمكنني أن أخبرك لماذا لا يريد الناس التحدث عن ذلك لأنني لا أعرف، ودارت النقاشات حول ما إذا كان الحديث عن الأمر ربما يجعله أقوى لأنه سيقول إنه نجى ولا يزال على قيد الحياة، وعما إذا كان تقديرا فائقا لنا عندما نقول إننا وصلنا له في المقام الأول، وما نعلمه أنه عاد يسير على قدميه في أواخر العام الماضي".
وأنكر مسؤول أميركي علمه عن ضرب البغدادي في غارة جوية في تصريحه لـ"غارديان" قائلا " ليس لدينا أي معلومات موثوقة تشير إلى إصابة البغدادي في غارة جوية، ويعد المجتمع الاستخباراتي أن البغدادي هو أمير تنظيم "داعش" الذي يمد التنظيم بالقيادة بما يتسق مع دوره كما توضحه دعاية التنظيم"، ويعتقد مسؤولون في شمال العراق الكردي وفي أوروبا أن البغدادي تعافى ويتحرك بانتظام في جميع أنحاء شمال العراق وشمال شرق سورية، وفي الأشهر الستة الماضية كانت له مشاهدات مؤكدة في الشدادي في سورية وفي البلدة الحدودية بوكمال، وهناك اعتقاد قوي بأنه زار بيجي والعباسية وتلعفر في شمال غرب العراق والموصل أيضا، فقد أعلن نفسه الخليفة على ما تنظيم "داعش" في حزيزان/ يونيو 2014 في ظهور علني له في مسجد النوري في المدينة.
وبين الكولونيل قاسم داخل سينجار وقائد وحدة الأمن المحلية "لدينا أشخاص يتحدثون إلينا ويخبرونا عند وصول البغدادي، وقبل 3 أسابيع كان تنظيم "داعش" في تلعفر يتصرف بشكل غريب فقد نقلوا كل سياراتهم إلى العلن ووقفوا بأنفسهم، وكان من الواضح أن شيئا ما يحدث، وتواصلنا مع الأميركان ووافقوا لكنهم قالوا: لا يمكننا مهاجمة أي شيء عليكم أن تحددوا لنا هدفا، وأنا أعلم أنه عاد إلى العباسية لتقديم الصلوات آخرا وكان يعيش في كوخ صغير بالقرب من حافة المدينة ونحن متأكدون من ذلك ونعلم عندما يجيئ ويذهب".
وتقاد الحملة الجوية بمزيج من إشارات الاستخبارات التي تأتي من اعتراض المكالمات الهاتفية والرسائل ورسائل البريد الإلكتروني وبرامج الرسائل القصيرة، وأوضح ضابط سابق في الاستخبارات الأميركية لـ"غارديان" أن الذراع التكنولوجي لتنظيم "داعش" في أيدي ما لا يزيد عن 30 شخصا وهم مصدر ثقة لإقامة اتصالات آمنة بين الخلافة المزعومة وأعضائها في أماكن أخرى في العالم، وأضاف المصدر " أفضلهم يعملون بشكل جيد للغاية مثلنا ولكن الكثير منهم مهملين".
وتقع بيجي وبليجي وتلعفر ضمن مجموعة أبراج هاتفية أقامها الإقليم الكردي، وفي حين استهدف التنظيم بعض الأبراج لا يزال في إمكان سكان المدن الوصول إلى الشبكات الكردية التي تسمح للمصادر بالتواصل مع المسؤولين الأكراد، وأردف أحد المسؤولين الأكراد في سنجار " سنحصل عليه في نهاية المطاف، ربما تكون هذه القرى مخلصة له للغاية لكن ليس كل شخص فيها هكذا"