طرابلس ـ فاطمة سعداوي
طالب الدكتور محمود جبريل، وهو يستعد، كما يبدو، لخوض غمار المنافسات الانتخابية من جديد في ليبيا، بتعهدات مسبقة من كل القوى السياسية وأيضاً المسلحة، سواء كانت تابعة للمؤسسة العسكرية أو لميليشيات، باحترام نتائج الانتخابات، قبل إجرائها. وهو يتهم صراحة “قوى الإسلام السياسي” بأنها أبطلت، بقوة السلاح، فوز تحالف القوى الوطنية في الانتخابات الماضية، قائلاً إن تضييع تلك الفرصة أضاع فرصة تحويل “انتفاضة 17 فبراير (شباط)” إلى مناسبة لبناء دولة.
ويتحدث الدكتور جبريل الذي قاد المكتب التنفيذي المؤقت (حكومة الثوار) خلال “انتفاضة فبراير” ضد حكم العقيد معمر القذافي، عن تفاصيل زيارته الأخيرة إلى طرابلس بعد انقطاع استمر سنوات، ويقول إنه لبّى دعوة وجهتها إليه “كتيبة النواصي” وهي مجموعة مسلحة تنشط في سوق الجمعة (شرق طرابلس). ويعترف بأنه لم ينسّق مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج خلال هذه الزيارة إلى مدينة يُفترض أنها خاضعة لسيطرتها. يقول إن “النواصي” أيّدت في البداية حكومة السراج لكنها تراجعت عن ذلك نتيجة “الأداء المخزي والفاشل” لها. ويعتبر أن الكتائب المسلحة التي تعلن ارتباطها بحكومة الوفاق تعلن ذلك فقط لأنها تتلقى رواتبها منها، قائلاً إن السراج لا يمكن أن يبقى لحظة في طرابلس إذا سحبت الميليشيات المسلحة الغطاء عنه.
وأشاد جبريل بجهود الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في التصدي للجماعات المتشددة في الشرق الليبي. ورغم انفتاحه على أنصار النظام السابق، مبيّنًا أنّ عقبات قانونية تحول أمام لعب سيف الإسلام، نجل العقيد القذافي، دوراً أساسياً في مستقبل ليبيا، موضحًا أنّ سيف ما زال مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية و”القانون الدولي يسمو على القانون المحلي الليبي”.
ويحذّر جبريل من خطر “توطين” ملايين الأفارقة في ليبيا، مشيراً إلى أن هذه الفكرة مطروحة أوروبياً في إطار التصدي لموجة المهاجرين إلى القارة العجوز.
وعن انقطاعه الطويل عن زيارة ليبيا، أضاف أنّ "الانقطاع لم يكن خياراً بل كان اضطراراً، فبعد عملية “فجر ليبيا” (في صيف 2014) أصبح هناك تهديد أمني حقيقي تُرجم في حرق مقرات تحالف القوى الوطنية في طرابلس والعبث بملفات أعضائه. لم يقتصر ذلك على طرابلس بل امتد ليشمل غالبية مدن المنطقة الغربية. قام بذلك من يسمّون أنفسهم “تنسيقية العزل السياسي”، وهم مجموعات محسوبة على الإسلام السياسي كانت تسمي نفسها في البرلمان “كتلة الوفاء للشهداء”. ما حصل كان انقلاباً حقيقياً على العملية الديمقراطية في ليبيا. حصل ذلك عام 2012 بعد الانتخابات الأولى (التي فاز فيها التحالف)، ثم تكرر عقب الانتخابات النيابية عام 2014. حصلت عملية “فجر ليبيا” وطُرد البرلمان (الجديد المنتخب) من طرابلس، وهُجّر أعضاء تحالف القوى الوطنية، وبعضهم تعرض لمضايقات وتنكيل وتوقيف. وبالتالي، ترْك طرابلس لم يكن خياراً بل نتيجة اضطرار، وفي أغسطس (آب) الماضي، نظمنا ندوة دولية بمدينة الحمامات التونسية، وطرحنا مبادرة استغرق إعدادها نحو سنة كاملة من التشاور مع أطراف نسميها فاعلة على الأرض. بدأت تلوح في الأفق استجابة من بعض هذه الأطراف. فعلى مستوى التشكيلات المسلحة، جاءتنا استجابة من “كتيبة النواصي” وهي إحدى الكتائب الكبرى في طرابلس. أحبّوا مناقشة المبادرة وأبدوا استعداداً مبدئياً للخوض في تفاصيلها. وُجّهت دعوة فقبلْتها وسافرتُ إلى طرابلس حيث مكثت يومين. كان النقاش رائعاً ومسؤولاً وترتبت عليه خطوات عملية وتشكلت لجنة تحضيرية ستجمع سياسيين وقادة تشكيلات مسلحة وبعض القوى الاجتماعية (الأعيان)، أي الشرائح الثلاث التي نعتقد أنها تمثّل القوى على أرض الواقع. وهذه القوى هي: الاجتماعية، والمسلحة، والسياسية، والتي كانت غائبة عن اتفاق الصخيرات. وبالتالي، فإننا نشعر بأن مبادرة غسان سلامة فيها تشابه كبير مع ما كنا ننادي به، لأنها حاولت أن تعكس توازن القوى الفعلي على الأرض والذي كان مغيّباً عن اتفاق الصخيرات، إذاً، هذا باختصار سبب الغياب عن طرابلس وسبب العودة".
وأوضح جبريل أنّ "“كتيبة النواصي” ناشطة في سوق الجمعة بطرابلس، وهم لا يُحسبون على الإسلام السياسي. أما بالنسبة إلى موقفهم من حكومة السراج، فهم دعموها في البداية باعتبارها حكومة وفاق، ولكن في ضوء الأداء المخزي والفاشل لهذه الحكومة باتت القوى كافة تبحث عن بديل. فقد اتضح أن ما قام به المجتمع الدولي من تنصيب لهذه الحكومة لم يكن الحل الأنسب. فالحكومة تتمتع بدعم الشرعية الدولية لكنها لا تتمتع بالدعم الوطني"، وهذه الحكومة في طرابلس لكنها ليست فاعلة، والكتائب المسلحة، أي الميليشيات، هي التي تحكم البلاد، معظمها يُحسب على أنه موالٍ لحكومة السراج، فهو يأخذ رواتبه من حكومة السراج، فهذه الحكومة لا خيار أمامها إلا أن تُعطي (الأموال). وجودها في طرابلس مرهون باستمرارها في دفع رواتب هؤلاء الشباب (أعضاء الميليشيات).
وأفاد جبريل بأنّه لم ينسّق مع حكومة السراج للوصول إلى البلاد، مضيفًا "تلقيت الدعوة من “كتيبة النواصي” وقبلت الدعوة، وذهبت. الفارق بين السلطة الرسمية والسلطة الفعلية، مع كل الاحترام للأخ فائز السراج وحكومته، هو أنه إن لم توافق الكتائب المسلحة على وجوده في طرابلس فلن يستطيع أن يبقى دقيقة واحدة فيها. هذا الأمر الواقع، الحرس الرئاسي مهمته حماية الرئاسة. إذا استطاع أن يحميها أكثر الله من خيره".
ونوّه جبريل إلى أنّه لا يريد تأييد حكومة السراج رغم الاعتراف الدولي بها، مضيفًا "لا يعنيني كثيراً أن ترمب استقبل هذا الطرف أو ذاك. أنا أدعم برنامج إنقاذ لهذا الوطن. عندما يتبنى السراج برنامج إنقاذ للوطن فسأدعمه. لكنني لا أدعم أشخاصاً، بل برامج. أدعم برنامجاً يُخرج الوطن من أزماته، وهذا البرنامج غير موجود حتى الآن. لو كان مطروحاً لما قدّم غسان سلامة مبادرته لتعديل اتفاق الصخيرات ومحاولة خلق حكومة وحدة وطنية. ما فعله المجتمع الدولي هو أنه بدأ بحكومتين (حكومة عبد الله الثني في الشرق وحكومة خليفة الغويل في طرابلس) وأضاف إليهما ثالثة (حكومة السراج). بدل أن يوحّد الحكومات المتشرذمة، زاد الأمور تشظياً. أنا لا أدعم تشظي هذا الوطن ولا أدعم حكومات لا تمتلك الفعالية لتحكم. لا الحكومة في الشرق لديها الفاعلية، ولا حكومة السراج لديها الفاعلية، ولا ما سُمّي حكومة الإنقاذ (الغويل) لديها الفاعلية. فببساطة أدوات الحكم ليست في يدها. إنها حكومات لا تمتلك جيشاً ولا شرطة ولا قضاء ولا أدوات مالية. هي هياكل تفتقر إلى أدوات الفعل، حكومة الثني عيّنها البرلمان، ولذلك عندها شرعية برلمانية، ولكن شرعية الأداء وشرعية الإنجاز مفقودة. ليس لأيٍّ من الحكومات الثلاث شرعية حقيقية في وعي المواطن وفي يقينه. الشرعية لدى المواطن ترتبط بالقدرة على الإنجاز. عندما يقف المواطن أمام المصارف طوال يومين ليقبض ما يعادل 200 دولار فقط في الشهر، وعندما تنقطع عنه الكهرباء بين 10 و15 ساعة يومياً، وعندما لا تصله المياه، وعندما يكون الأمن مفقوداً، فأيُّ شرعية يمكن أن يعطيها المواطن لأي حكومة؟"
وعن قبول الأطراف التي تتنازع على السلطة، المبادرة التي يطرحها، أوضح أنّه "أتوقع أن ينخرطوا في حوار جاد حولها. وعندما ينتهي هذا الحوار بالإضافة والحذف والتعديل تصبح مبادرة جامعة وليست مبادرة التحالف الوطني فقط. هدف المبادرة في الأساس التغلب على معوقات قيام الدولة الليبية. خطأ اتفاق الصخيرات أنه افترض أن هناك دولة لديها سلطة وكان برناردينو ليون (المبعوث الدولي السابق) يسعى إلى تقسيم هذه السلطة ما بين القوى المتصارعة، ناسياً أو متناسياً أن السلطة لم تُخلق بعد ليتم تقاسمها. السلطة الفعلية هي في أيدي هذه القوى التي نتحاور معها الآن في محاولة جديدة لإعادة السلطة إلى الدولة. فالسلطة تشتتت وتبعثرت ما بين سلاح وقوى اجتماعية وقوى سياسية، وليست هناك سلطة مركّزة لدى سلطة معترف بها من الجميع. وبالتالي فكرة هذه المبادرة هي إعادة تجميع السلطة في يد واحدة، أقصد 3 أشياء: أولاً، إقامة جسم موحد يمتلك الشرعية من وجهة نظر الليبيين، ويكون لديه برنامج واضح للخروج من هذا النفق ولديه أدوات الفعل لتنفيذ هذا البرنامج. ومن أجل ذلك تم التعامل مع ملفات محددة أولها وأخطرها ملف تجميع السلاح وتفكيك التشكيلات المسلحة وإعادة دمجها في بدائل مختلفة. زيارة طرابلس تمحور أغلبها حول هذا الجانب. الملف الثاني هو مؤسسة الجيش: كيف يُبنى الجيش؟ معايير تأسيسه والانضمام إليه؟ قُدّم تصوّر في هذا الشأن وتمت مناقشته من قبل الشباب (كتيبة النواصي). طبعاً، مصر ترعى حواراً بين ضباط الجيش الليبي من مختلف مناطق ليبيا. وهذا الحوار في الحقيقة يسير بشكل جيد جداً. ونحن نبارك هذا الجهد الاحترافي من قبل ضباط الجيش الليبي من أجل محاولة لملمة أنفسهم، لأنه لو توحدت المؤسسة العسكرية الليبية فهذه تُعتبر أهم خطوة في سبيل إعادة بناء الدولة. وبالنسبة إلى الشباب، مَن عنده رغبة في الانضمام إلى الجيش هناك معايير محددة لفعل ذلك متَّبَعة لدى جيوش العالم. ولكن نريد تحديد معايير تأسيس الجيش: أيُّ نوع من الجيش نحتاج إليه؟ وهذا أمر تحكمه الجغرافيا، وعدد السكان، والتهديدات المستقبلية المحتملة للأمن القومي. ليبيا قليلة السكان وشاسعة المساحة. وهناك خطر ديموغرافي حقيقي بتضخم الكتل السكانية غير الليبية جنوباً وشرقاً وغرباً. وفي حين أن النمو السكاني الليبي يتناقص، نجد أن كل الدول المحيطة بليبيا تتضخم سكانياً. والمفارقة أن ليبيا مع قلة سكانها هي الدولة التي تمتلك عائدات نفطية ومالية، وشاسعة المساحة. وقد بدأ بعض الدوائر الأوروبية يدفع في هذا الاتجاه: بما أن ليبيا كبيرة المساحة وقليلة السكان وتتوافر فيها الثروة، فإنها تستطيع أن تستوعب ما بين 40 و50 مليون أفريقي، فلمَ لا تكون وطناً بديلاً للأفارقة، ونحل بالتالي مشكلة الهجرة غير الشرعية. وطبعاً مثل هذه المجادلة تغري كثيرين، يُقال إن الطرح متداول في بعض الكواليس الأوروبية، وليس خافياً على أحد أن رئيس وزراء المجر قال في تصريح علني قبل شهور قليلة إنه لمَ لا يتم توطين الأفارقة في ليبيا. هذا التصريح موجود وموثّق. وما أقصد أن أقوله إننا عندما نبني جيشاً في ظل مثل هذه الظروف (قلة السكان، وكبر المساحة، وتوافر الثروات، والتهديدات المحتملة) فقد توصلنا إلى أن الجيش يجب أن يكون وفق ما يُعرف بـ”الجيش الذكي” (سمارت آرمي) وهو شبيه بالجيش الإسرائيلي: سلاح جوي ضارب، قوي للغاية، لتجسير مشكلة مساحة المكان، وحرس حدود قوي، واعتماد قوي جداً على التقنية، مع احتياطي يصل إلى 100 ألف مقاتل تتم تعبئتهم عند الحاجة فقط. وطبعاً يكون الجيش خاضعاً –كما في كل الدول– للسلطة المدنية".
وقال جبريل إنّ "المبادرة مطروحة أمام كل من يرتضي الدولة المدنية ويتحدّث عن مستقبل ليبيا لا عن ماضيها. ماضي ليبيا لو كان مُرضياً لما قامت انتفاضة 17 فبراير. الكلام عن أن الانتفاضة كانت مؤامرة كلام فارغ لا أحب حتى الخوض فيه. الانتفاضة استُغِلت. كانت حراكاً شبابياً عفوياً استُغل من قبل القوى المنظمة والممولة والمدعومة خارجياً ونحت بها إلى منحى آخر، ولكن يجب ألا نحرم هؤلاء الشباب حقهم في أنهم قاموا بانتفاضة حقيقية عفوية تطالب بغد أفضل. أي شخص يدعو إلى لمّ شتات الوطن، والتداول السلمي على السلطة، وغد أفضل لليبيا، وحقوق مواطنة متساوية من دون إقصاء لأحد ودولة يحكمها القانون، فهو لا شك سيكون شريكاً في بناء هذا الوطن. وقد تحدث معي بعض أتباع النظام السابق. جلسنا وتحاورنا كثيراً، وكان الحديث في أمرين: الأول أن السيئ أدى إلى الأسوأ، والثاني أن الأولوية المطلقة الآن هي للحفاظ على وحدة الوطن التي أصبحت مهددة، وبناء الدولة في أسرع وقت ممكن، وإصدار وثيقة يحتكم إليها الليبيون، سَمِّها دستوراً أو ميثاقاً وطنياً. بالنسبة إلى الجرائم التي ارتُكبت، فالأفعال الجنائية لا تسقط بالتقادم، سواء ارتكبها أتباع النظام السابق أو من يُحسبون على انتفاضة فبراير. الجميع سواسية أمام القانون ولا تزر وازرة وزر أخرى. الجناية مرتبطة بالشخص لا بقبيلة أو مدينة أو نظام. وكان هناك توافق مع أغلب الناس الذين تحاورت معهم على هذه الأسس، وأنا أتصور أن السيد غسان سلامة سيدعو بعض أنصار النظام السابق لحضور المؤتمر الجامع الذي ينوي عقده في فبراير المقبل. إذا كان هناك بعض ممن يُحسبون على النظام السابق يدعون إلى الانتقام وإعادة النظام السابق فهذا ضد حركة التاريخ، وضد أماني الشعوب وتطلعاتها إلى مستقبل أفضل. إذا كان هناك أشخاص أخطأوا فتجب محاسبتهم، لكن أن تعيد النظام مرة أخرى وتعيد عجلة التاريخ، فالتاريخ ينطلق إلى الأمام ولا يدور في حركة دائرية، موضوع سيف معلّق مع المحكمة الجنائية الدولية كونه مطلوباً لديها. القانون الدولي يسمو على القانون المحلي. هناك حكم قضائي صادر بحقه من محكمة في طرابلس، ومع ذلك فقد صدر قانون عفو عام عن البرلمان الليبي، وهناك من يقول إن هذا القانون ينطبق على سيف. القضية تظل قانونية: هل القانون المحلي يُبطل قرار المحكمة الجنائية الدولية بالمطالبة به؟ لا أعتقد ذلك. فالقانون الدولي يسمو على القانون المحلي. هذه معضلة. أنا أتمنى على المهندس سيف أن يكون خ
طاب المصالحة وخطاب لم الشمل هو الذي يسمو على أي رغبات أخرى، لأن الوطن كله تعرض للمآسي ويندر أن تكون هناك عائلة ليبية واحدة لم تفقد أحداً من أفرادها، وبالتالي فإن ما حدث شمل الوطن كله ولم يشمل قبيلة معينة أو مدينة أو أسرة. ويمكن أن نتحدث في سبب الوصول إلى ما وصلنا إليه من خلال حوار ناضج وعاقل يهدف إلى الوصول إلى كلمة سواء لا إلى توجيه أصابع الاتهام. الاتهام لا يحل مشكلة، ومحله المحاكم. نحن في حاجة إلى تأسيس فهم مشترك الآن، وبالتالي الوصول إلى لغة مشتركة حتى يكون هناك حوار، ولذلك بدأنا بالثوابت عندما تحاورنا مع أتباع النظام السابق. أما سبب ما حدث فيؤجَّل. إما أن يكون مكانه المحاكم، وإما أن تكون جلسة مصالحة حقيقية تُطرح فيها كل الاتهامات والادعاءات، وليس هناك أحد فوق القانون سواء من أنصار النظام السابق أو مَن يحسبون أنفسهم على الانتفاضة. وهناك مغالطة يقع فيها كثيرون وهي مقارنة نظام سبتمبر (أيلول) بما يسمونه نظام فبراير. سبتمبر كان نظاماً استمر قرابة 42 عاماً ولديه كتابه الأخضر ونظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. اتفقت معه أم اختلفت، كان نظاماً، وسُمّي النظام الجماهيري. فبراير انتفاضة لم تتحول إلى نظام بل إلى فوضى. لم يكن هناك مشروع يلتف حوله الليبيون لخلق نظام جديد. بالعكس، كانت فرصة وضاعت. بعد الانتفاضة كان يمكن ذلك (بناء نظام جديد). انتخابات يوليو (تموز) 2012 كانت فرصة لبداية تأسيس نظام. للأسف تلك الفرصة سُرقت وبقوة السلاح نتيجة انعدام الوعي لدى رجل الشارع الليبي الذي وقف وحلمه يُسرق من أمام عينيه ولم يُحرك ساكناً".
وتحدّث جبريل عن أنّ الإسلام السياسي “سرق الحلم”، مضيفًا "سرقته القوى الممولة التي اعتقدت أن هذا (فوز التحالف) انقلاب على الثورة. قوى الإسلام السياسي هي التي فعلت ذلك. رفضت تلك القوى نتيجة الانتخابات، ثم أصدرت قانون العزل السياسي بدعوى تحصين الثورة، مع أنهم هم من انقلب على شركاء الانتفاضة. الانتفاضة ضمت شرائح عديدة من الليبيين فكيف تحتكر لنفسك (الإسلاميين) حق ملكية انتفاضة بحجم وطن؟ لم يتجاوز عدد المقاتلين في كل الجبهات خلال الشهور الثمانية من العنف المسلح خلال الانتفاضة 18 ألف شاب. الذين يسجلون أنفسهم الآن تحت مسمى ثوار يبلغ عددهم 320 ألفاً. تحولت هذه الصفة إلى وظيفة ووسيلة للارتزاق. أقصد أن أقول إنه كان هناك حلم وكان هناك مشروع يمكن أن يتحوّل إلى نظام لدولة جديدة تحوي الجميع، ولا تُقصي أحداً، وتساوي حقوق المواطنة بين أبناء وبنات الوطن الواحد. للأسف تلك الفرصة ضاعت. وأنا أختلف تماماً مع مَن يقارن سبتمبر بفبراير. لم يكن هناك نظام لفبراير، فبراير انتفاضة تحولت إلى فوضى عارمة وأدت إلى إهدار ثروات الوطن ودماء أبنائه وفرّطت في سيادته. هذا كله ترتب على سرقة الحلم. أما سبتمبر فكان نظاماً له بعض الإيجابيات والكثير من السلبيات. الدعوة لأتباع النظام السابق هي أن يأخذوا إيجابيات سبتمبر ويشاركوا بها في إقامة النظام الجديد بدل التمسك بالنظام القديم ومحاولة إحيائه. فلو كان النظام القديم صالحاً لما قامت هذه الانتفاضة، مشروع إقامة جيش وطني لا أحد يختلف معه، لأن إقامة جيش وطني هي الخطوة الأولى في بناء أي دولة. في ظل عدم وجود جيش وطني لا مجال للحديث عن السيادة، ولا مجال للحديث عن حقوق المواطنة، ولا مجال للحديث عن دستور، لأنه من دون جيش يصبح الدستور غير محميّ. فقضية بناء الجيش هي قضية حياتية بالنسبة إلى بناء الأوطان، ولا أحد يستطيع أن يعارضها. مأسسة هذا الجيش هي قضية القضايا، كي يصبح جيشاً احترافياً حقيقياً يدافع عن تراب الوطن وحقوق المواطنين. كما أن موقفنا من بناء جيش وطني هو من أهم ثوابت تحالف القوى الوطنية حتى قبل انطلاق عملية الكرامة (التي أطلقها حفتر)، ومن يتحدثون عن معارضة التحالف لمشروع بناء الجيش إنما يهدفون إلى الفتنة".
وأكّد جبريل أنّه ليس لديه مشكلة في أن يكون حفتر قائد للجيش، "هذه قضية عسكرية يختارها القادة. أنا لا أتدخل في اختيارهم. الأمر يخص القيادة العسكرية ولا أتدخل في قراراتها. كما أنه ليس لديّ أي مشكلات شخصية على الإطلاق مع المشير خليفة حفتر، وغسان سلامة يتحدث بشكل تقريبي لا بشكل برنامج محدد. فهمي الشخصي للمبادرة أنه طرح 3 مسارات متوازية وليست متتالية. يعتقد كثيرون أن هذه المراحل متتالية، أي عندما ينتهي تعديل اتفاق الصخيرات ننتقل إلى المؤتمر الجامع، وعندما ينتهي المؤتمر الجامع ننتقل إلى الانتخابات. لكنه يسير في 3 مسارات متوازية. المؤتمر الجامع الهدف منه إنجاز مصالحة وطنية حقيقية وإخراج ميثاق وطني أو عقد اجتماعي جديد لتأسيس دولة ليبية مدنية تتساوى فيها حقوق الليبيين وتتوحد فيها مؤسسات الدولة. لو فشلت لجنة الصياغة المشكّلة من مجلس النواب ومجلس الدولة في إنجاز قضية تعديل الاتفاق السياسي وتضمينه في الإعلان الدستوري قد يكون المؤتمر الجامع منفذاً آخر لإنجاز ما فشل فيه مجلس النواب ومجلس الدولة، باعتبار أن المجلس الجامع سيضم مختلف شرائح المجتمع الليبي. قضية الانتخابات مرهونة بثلاثة أشياء رئيسية: إيجاد إطار مرجعي تتم على أساسه الانتخابات، وميثاق وطني، وهو ما قد يُنجز في المؤتمر الجامع، أو بالاستفتاء على صيغة الدستور التي أكملتها الهيئة التأسيسية للدستور، أو بصدور قانون انتخاب من مجلس النواب، ثم ثالثاً وهي النقطة الأهم: توافر البيئة الآمنة لإقامة الانتخابات، وتوافر القناعة والتسليم الكامل والقبول بنتائح الانتخابات. وهذه النقطة الأخيرة بالنسبة إلينا نحن في تحالف القوى الوطنية هي أهم النقاط. لأننا أُقصينا مرتين بالقوة. أفقد هذا الإقصاء العملية الديمقراطية صدقيتها، وأخشى أن الإقبال على الانتخابات سيكون ضعيفاً لأن أحلام المواطن، في كل مرة، تتبخر ولا تتحول إلى حقيقة مع تحوّل صندوق الاقتراع إلى أكذوبة".
واختتم جبريل بأنّ "البيئة الآمنة والتسليم بنتيجة الانتخابات في غاية الأهمية للانتخابات المقبلة. فلو أقيمت الانتخابات في ظل الوضع الحالي سيحكمها السلاح والمال والإعلام، ولن تكون هناك فرصة لتنافس بين برامج انتخابية حقيقية يختار من بينها المواطن ما يرى أنه ينقذ الوطن. هذه وجهة نظري. لكن لو توافرت البيئة الآمنة وتوافر التسليم بنتيجة الانتخاب وكانت هناك فرصة لطرح برامج انتخابية حقيقية يتم التنافس عليها، لكان الأمر متروكاً لتحالف القوى الوطنية ليقرّر من يرشح، ولكن قطعاً مثل هذه الانتخابات سنشارك فيها. ولكن الاقتراع في ظل الوضع الحالي سيكون تنافساً في المال والسلاح".