نابلس - آيات فرحات
تسحب نَفَسَها من خرطوم شيشتها بكل ثقة وعنفوان لتخرجه مرة آخرى دخانًا يغطي ملامح وجهها وتفاصيل الزمن المنقوشة عليه، فيشعر الجالس أمامها للحظة أنها في مقتبل العمر، أم صقر امرأة تجاوزت السبعين من قرى جنوب نابلس تعمل في قطف الأعشاب البرية من جبال القدس ورام الله، فتتكئ على هذه المهنة معيشتها وبعض أبنائها المتزوجين.
وبرائحة الزعتر التي لا تفارقها وثوب يعيدك بتفاصيله إلى أيام بساطة الفلاح وعزته بأرضه تعلن أم صقر أنها "نتجه في مواسم الزعتر والميرميه واللوف وفي ساعات الصباح الباكر، إلى الجبال البعيدة عن المناطق المسكونة لنجمع ما نراه من أعشاب، فنصل أحيانًا إلى حدود المستعمرات الإسرائيلية ونقاط التفتيش ما يكون فيه خطر على حياتنا".
وأضافت"حتى لو أصبحت في عمر السبعين لن أنتظر من ينفق علي، فأولادي لديهم مايكفيهم من هموم، ولن أكون يومًا تحت رحمة أي أحد".
إنّ المتأمل في حديث أم صقر وبساطته يلاحظ معرفتها الدقيقة إلى قرى الضفة وشوارعها، كما يلاحظ ثقتها بنفسها والتي فقدها كثير من كبار السن بعد أن تركوا إعالتهم واجب على أبنائهم.
وخلال حديثي معها سألتها عن صديقتها التي ماتت، فأحسست بدمعة في عيونها ولوم في عيون الجالسين، لتجيب وكأنها تفتح جرحًا قد أغلق "بعد أن انتهينا من العمل سبقتني إلى الشارع الرئيسي ليتوافق وصولها مع شاحنة كبيرة تدهسها دون أن يشعر صاحبها بشيء إلا عندما أوقفته محامية كانت في سيارة خلفه لتخبره بما فعل".
وأكدت أم صقر "ذهبت بعدها إلى ذلك المكان ووضعت حجر لففته بقطعه من ملابسها كمقام لامرأة ماتت أثناء عملها لكني لم أجده بعد ذلك"، مضيفةً "سأبقى في عملي حتى لو كان لي نفس مصيرها، فما أسمعه وما آراه من أمهات عذبن في كبرهن يزيدني إصرارًا على العمل.
وروت أم صقر قصة أنّ أحد الآباء أجبره ابنه على العيش في خيمة صغيرة على سطح المنزل لتمطر الدنيا فيجري ويطرق باب السطح لكن صوت طرقاته لم يصل قلب أي واحد من أهل بيته.
وأوضحت نحن الشرقيون ننجب الأبناء ليعينونا في كبرنا، لماذا لا نعمل في أيام قوتنا ما نضمن به كرامة العيش في ضعفنا دون أن نسال أحد، حتى أبناءنا.
وذكر دكتور علم الاجتماع في جامعة النجاح الوطنية، فيصل زعنون، "رغم دفاعي المستمر عن حقوق كبار السن إلا أنه عند لقائي بهم ألومهم لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم أي حساب".
وأكد "طول ما لقمتك مش جايه من فاسك، عمر قرارك ما يبقى من راسك"، أيقنت أم صقر معنى هذا المثل أكثر من فتيات في مقتبل العمر ينتظرن من ينفق عليهن.