دمشق-فلسطين اليوم
تُعدّ مرحلة الاستقبال داخل سجون داعش هي الأسوأ على الإطلاق حسب شهادات بعض الناجين منها. يقف المعتقل معصوب العينين ومكبّل اليدين أيّاماً قد تصل إلى أسابيع دون ماء أو طعام إلا في أوقات الصلاة، بحسب رواية أحد الناجين لـ DW. تنفث الحافلة دخاناً كثيفاً من عادمها، وكأنّها تتنفس الصعداء مع ركابها الذين نجحوا في اختراق الأسلاك الشائكة التي تفصل بين مدينة تل أبيض السورية ومدينة أقجة قلعة التركية؛ يعكس منظرهم المعنى الحقيقي لقهر الرجال.
وإلى جانبهم نساءٌ أرهقهن طول المسير والانتظار، يحملون معهم كثيراً من الألم وذكريات الماضي المرير، وقليلاً من الأمل بمستقبلٍ مجهول لا يظهر منه سوى الطريق الذي بدأت حافلتهم تطويه. من يتمكن من دخول الأراضي التركية اليوم، كمن يحصل على شهادة ميلادٍ جديدة، فكيف إذا كان أحد ركّابها هو خالد(اسم مستعار) الخارج للتو من سجون داعش؟! في حواره مع DW كان خالد يُغالب دمعةً سكنت مقلتيه، ويجهدُ ألا تهرب من عينيه، فتجد لها صدىً في قلب زوجته وأطفاله الجالسين قبالته.
اعتُقل في أواخر شهر مارس الماضي من قبل عناصرما يطلق عليه«الشرطة الإسلامية» في الرقة، وبقي في سجونهم المرعبة قرابة تسعين يوماً، قال إنّ «ذكراها محفورةٌ في ذاكرته، كتلك الأخاديد التي حفرتها سياط التعذيب على جسده، لتبقى شاهداً على إجرامٍ فاق كلّ تصور».
ابتزاز المدنيين وإرهابهم يصف خالد ذلك اليوم بالمشؤوم، حيث خرج صباحاً كعادته متوجّهاً إلى متجره الذي يبيع فيه الملابس المستعملة، لتجمعه المصادفة بجاره الداعشي الذي استولى على منزل أخيه الهارب من ظلمهم، يقول خالد: «سألني عن أحوالي وعن أخي، ومن ثمّ سألني عن زوجة أخي التي تقطن في دار والدها؛ هنا شعرتُ بأنّ خطراً ما يتربّص بنا».
حيث بات كثيرٌ من أهالي الرقة يُخفون بناتهم خوفاً من تحرّش عناصر داعش، ومحاولاتهم المتكررة في طلب الزواج منهن؛ لذا شعر خالد أنّ هذا الداعشي يُبيّت لهم الشر، فشرح لنا بإسهاب كيف اتّصل بأخيه، وأعلمه بتلك المحادثة مع جاره الداعشي، وقيامه بإبلاغ زوجة أخيه بضرورة الرحيل عن الرقة فوراً.
وهو ما تمّ بعد محاولات حثيثة، ودفع مبالغ طائلة تمكّن من خلالها من تهريب زوجة أخيه مع طفلتها إلى الحدود التركية، حيث سلّم الأمانة لأخيه وقفل راجعاً إلى الرقة، دون أن يعلم بالمصير القاتم الذي كان بانتظاره. استقبال الموقوفين الجُدد بأبشع الطرق قضى خالد ثلاثة أيّام بلياليها واقفاً إلى الحائط معصوب العينين مُكبّل اليدين إلى الخلف، لا ماء ولا طعام إلا في ساعات الصلاة، حيث يحظى الموقوف بفرصة كي يثني ذراعيه وركبتيه فيستريح.
يتذكر كيف عاد من رحلته ليجد جاره الداعشي وقد هيّأ له تُهماً شتّى عقوبة أيّة واحدةٍ منها هي الموت؛ يضيف قائلاً: «المرحلة الأولى من الاعتقال كانت مرحلة الاستقبال، وهي من أقسى مراحل السجن، حيث يبقى السجين واقفاً قبالة الحائط، معصوب العينين، مكبّل اليدين، لا يعرف من يقف إلى جانبه أو خلفه». يذكر خالد أنّه حاول الجلوس بعد أن نال منه التعب، فكان نصيبه ضربةً من سوط شعر كأنّها نارٌ حاميةٌ سلخت جلده سلخاً.
بعض المعتقلين يبقى واقفاً ساعةً أو ساعتين حسب قوله، وبعضهم قد يتركونه واقفاً لمدة أسبوعٍ كاملٍ، وكثيرٌ منهم أُصيب بحالات الإغماء، وبعضهم فارق الحياة من شدّة الخوف والإجهاد. التحقيق ووجبات المبعوثين الدوليّين المحققون مُعظمهم من المهاجرين، أغلبهم من السعودية وليبيا وتونس والعراق، بينما يقوم السوريون منهم، بمهام الجلاّدين وتنفيذ أوامر المحققين.
بقي خالد سبعة أيامٍ داخل الزنزانة المنفردة التي كانت أشبه بالقبر على حدّ تعبيره، ثمّ اقتادوه إلى القاضي الذي لم يسمح له بالرد أو الحديث معه، يصف خالد ذلك قائلاً: «تلا القاضي التهم الموجّهة لي، واكتشفتُ أنني متهمٌ ببتهريب رعايا الدولة الإسلامية إلى أراضي الكفار، كما يقول مستنتجا»،هذا يعني أنّ عقوبتي هي الموت.
يتذكّر خالد تلك التفاصيل بقلبٍ منهك، وجسدٍ أدمته القروح، فقد كان زاده اليومي الجلد بالسياط، أو الركل بأحذية عناصر داعش، يقول: «وجبة الإفطار عادةً ما تكون ساعتين من الأخضر الإبراهيمي(المبعوث الدولي السابق لسوريا)، أمّا الغداء فلا بدّ لك أن تحظى بوجبة دسمة من دي مستورا(المبعوث الدولي الحالي لسوريا)».
استوضحنا منه ماهيّة تلك الأسماء، ابتسم متابعاً كلامه:»هي استعاراتٌ أطلقها المعتقلون لتسمية خراطيم التعذيب التي يستخدمها عناصر داعش«. فالنوع الأول هو خرطوم ماء بقطر1.5 سم لونه أخضر معروف في الأسواق، ومن هنا استعاروا تسمية الأخضر الإبراهيمي؛ أمّا دي مستورا فهو النوع الثاني الذي كان أكثر تطوراً وإيلاماً، وهو عبارة عن كابل يُستعمل في إنارة الشوارع، ويحتوي من الداخل بعض الأسلاك النحاسية التي ما إن تلامس الجسد حتى تلتهم اللحم البشري بشغفٍ لتبقى آثار الأجساد البشرية عالقةً في تلك الأسلاك.
التقى خالد بكثيرٍ من المعتقلين من عناصر داعش أنفسهم داخل السجن، بعضهم حاول الهرب، وبعضهم الآخر كانت تهمته العمالة للاستخباراتٍ الأجنبيةٍ. الحرب النفسية تسلية داعش بعد فترة التعذيب الأولى التي مرّ بها خالد، راح يصف لنا الحرب النفسية التي مورست عليه بكل بشاعة، فبعد مرور شهرين على وجوده داخل زنزانات انفرادية، أخذه أحد الجلادين إلى غرفةٍ معزولةٍ، حيث أمره بارتداء البدلة البرتقالية التي سلّمها له، ثم أمره بالجلوس على كرسي يتوسط الغرفة، ونُصبت قبالته آلة تسجيلٍ عرف من خلالها أنّ الموعد قد حان، وأنّه بعد أن يتلو البيان الذي كتبوه له، سيتدحرج رأسه على تلك الأرض، ليبقى جسده مكبّلاً إلى ذلك الكرسي المهترىء حسب وصفه. يقول خالد:»كانت الأفكار تتزاحم في رأسي، وانأ أستمع إلى تعليمات الجلّاد الفض، لتأتي مفاجأة أخرى ولكنّها هذه المرّة كانت لصالحي».
حيث يذكر خالد أن طيران التحالف قام بقصف السجن، الأمر الذي أدّى إلى حدوث فوضى وتدمير كبير في المكان، يضيف قائلاً:»هزّت الضربة أرجاء المكان، وتناثرت فوقنا بقايا البناء الذي دُمّر جزئياً؛ هرع عناصر داعش يركضون على غير هدى، يتفقدون زملاءهم في باحة السجن الخارجية وقد أصبحوا أشلاء متناثرة، ثمّ اقتادونا بسرعة وأركبونا في سياراتهم، وتمّ نقلنا إلى مكانٍ آخر».
كانت تلك الضربة كفيلةً بإنهاء معاناة خالد مع جلّاده الذي اكتشف أنه كان يتلاعب به، ويمارس عليه حرباً نفسيةً، فما أن وصلوا إلى المكان الجديد الذي نُقلوا إليه، حتّى تمّ فرزهم من جديد كلٌّ حسب تهمته، وكان حظّه أنّ مدّة حكمه ثلاثة أشهر، بقي منها أسبوع مع دفع غرامة مالية قدرها ثلاثمائة ألف ليرة سورية، ولولا أنّ جاره الداعشي قد تمّت تصفيته في تلك الغارة، ما كان لينعم بالخروج من سجنه هذا ولو دفع أموال الدنيا كلّها كما يقول.