جنيف - فلسطين اليوم
لم يكن مفاجئا أن تتعثر مفاوضات جنيف بين وفد الحكومة السورية ووفد الهيئة العليا للمعارضة، في ظل تمسك الطرفين بمواقفهما المتباعدة.
المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا طلب المعونة من موسكو وواشنطن إزاء تعثر مفاوضات جنيف؛ والمسألة لا تتعلق بطلبات لهذا الطرف أو ذاك؛ بل بغياب تام للثقة بين طرفي المفاوضات، ورغبة كل منهما في تطويع طاولة المفاوضات لمصلحته بالكامل، من دون اعتبار لمعطيات الواقع السياسي والميداني في سوريا، ومن دون اعتبار أيضا لمعطيات الواقع الإقليمي والدولي.
فالمعارضة، تريد مفاوضات تنتهي فورا إلى تغيير سياسي واضح، وشبه كامل في بنية منظومة الحكم، مستندة في ذلك إلى نصوص في قرارات الأمم المتحدة، ومواثيق التفاهم الدولية، التي رعاها الاتحاد الروسي والولايات المتحدة.
والأمر نفسه بالنسبة إلى دمشق، التي تتمسك هي بالمقابل بفقرات، نصت عليها قرارات الأمم المتحدة، ومواثيق التفاهمات الدولية.
والمشكلة الأولى - هي الانتقال السياسي، التي تُعَدُّ أم القضايا بحسب الأمم المتحدة، على أساس أن جوهر الأزمة السورية سياسي بالدرجة الأولى، حتى وإن اتخذ الصراع أبعادا إقليمية ودولية. غير أنه من دون حل للمشكلة السياسية الداخلية فلا مجال لحل الأزمة برمتها.
وتكمن المشكلة في أن المعارضة تريد أن تبدأ من حيث يجب أن تنتهي وفقا لخريطة الطريق، التي نص عليها القرار الدولي 2254، الذي يشدد على مرحلة انتقالية مدتها 18 شهرا، تبدأ بتشكيل حكم ذي مصداقية وغير طائفي؛ ثم كتابة دستور جديد، يليه إجراء انتخابات، على أن يترك مصير الرئيس بشار الأسد إلى مرحلة لاحقة غير معروفة، -هل تكون مع نهاية المرحلة الانتقالية، أم بعدها؟
بيد أن المعارضة تطالب الدخول في مفاوضات الانتقال السياسي؛ لأن "جنيف-3"، المدعوم من روسيا والولايات المتحدة، عُقد لأجل هذا الهدف؛ أي من أجل الاتفاق خلال فترة زمنية مدتها 6 أشهر على تفاصيل المرحلة الانتقالية، ومنها شكل الحكم.
لكنَّ مطالبة المعارضة برحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية عقَّد الأمر، لأنه يخالف المواثيق الدولية، ومطالب معظم الدول الغربية الفاعلة في الساحة الدولية، التي قبلت ببقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية؛ حيث لا وجود لنص يدعو إلى رحيله سواء في بداية المرحلة الانتقالية أم في نهايتها.
والمرتان الوحيدتان، اللتان ذُكر فيهما تشكيل "هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة"، كانتا في بيان جنيف الأول والقرار الدولي 2118 نهاية عام 2013. لكنَّ بياني فيينا الأول والثاني والقرار الدولي 2254، التي هي المرجعية السياسية، لم تتحدث عن هيئة حكم ذات صلاحيات كاملة.
أما بالنسبة لوفد الحكومة، فيبدو واضحا أنه لا يريد في الأساس التفاوض على المرحلة الانتقالية، التي هي جوهر القضايا بحسب دي ميستورا، ويريد العودة إلى المربع الأول: أولوية محاربة الإرهاب، من دون مراعاة للتطورات الحاصلة؛ وأهمها الانسحاب العسكري الروسي من أجل إعطاء دفعة للتسوية السياسية. وهذا ما أشارت إليه موسكو صراحة، حين أعلنت أن العملية العسكرية حققت أهدافها في سوريا، وأن الوقت حان للعملية السياسية.
وتوضح العودة إلى المطالبة بمحاربة الإرهاب في ظل الهدنة العسكرية، وفق متابعين لمسار المفاوضات، أن دمشق ليست في وارد مناقشة القضايا السياسية المهمة؛ بل تريد تطويع المفاوضات لمصلحتها؛ وتصريح مندوب سوريا الدائم في الأمم المتحدة بشار الجعفري بعد لقائه دي ميستورا، لا لبس فيه، حين قال "ركزنا في هذه الجلسة على قضية تهمنا وتهم العالم أجمع، وهي مكافحة الإرهاب، وشرحنا أنه يشمل إرهاب الأفراد والتنظيمات والكيانات، وتحدثنا عن مخاطر قيام دول بدعم الإرهاب تحت مسميات عدة.. مسألة الرئيس الأسد لا علاقة لها بالمفاوضات، وإجراء انتخابات مجلس الشعب مسألة سيادية، وتصرف ديمقراطي، يتطلبه الحفاظ على مؤسسات الدولة".
لكن المبعوث الأممي سرعان ما رد عليه، قائلا: "سألت رئيس وفد الحكومة السورية بشار الجعفري حول رؤيته للمرحلة الانتقالية، فكان جوابه أنه من المبكر الحديث عنها.. لا توجد خطط بديلة للمفاوضات الجارية في جنيف.. الانتقال السياسي هو القضية الأساسية، لا شك في ذلك، لدى جميع أعضاء مجلس الأمن، وقد أبلغت الجعفري بضرورة أن نكون واقعيين".
وأمام هذا الوضع، يبدو أن المفاوضات تسير نحو نفق مظلم: فلا دمشق في وارد تقديم تنازل، ولا المعارضة في وارد القبول بتغيير سياسي متدرج. ويمكن أن يؤدي هذا الوضع إلى تفجير الواقع الميداني وإلغاء الهدنة؛ وهذا ما أكده دي ميستورا، حين قال إن الهدنة الهشة ما زالت صامدة، لكنَّ عدم تحقيق تقدم سياسي سيؤثر سلبا على هذه الهدنة