موسكو - فلسطين اليوم
لاريب في أن نتائج سياسية وعسكرية ستترتب على قرار روسيا سحب القسم الأكبر من قواتها العسكرية من سوريا، مثلما ترتبت نتائج على بدء عمليتها العسكرية هناك.
فعلى الصعيد العسكري، ثبَّت قرار الانسحاب الروسي معادلة القوة على الأرض عند هذا الحد؛ بمعنى أن موسكو أكدت في قرارها ما كانت تقوله دائما من أنها لم تأت إلى سوريا من أجل شخص بعينه، وإنما من أجل مصالحها الاستراتيجية الكبرى؛ ومنها عدم إسقاط منظومة الحكم في سوريا بالقوة العسكرية.
وهذا الهدف قد تحقق عبر تمكين القوات الروسية الجيش السوري من استعادة مناطق مهمة في الشمال الغربي لسوريا، وإزالة تهديدات فصائل المعارضة المسلحة من جهة، وعبر تسليح الجيش السوري بأسلحة تمكنه من الاستمرار في معاركه في حال فشل الهدنة العسكرية من جهة أخرى.
وقوة التسليح بدت واضحة في المعارك، التي يخوضها الجيش السوري، في محيط تدمر بريف حمص الشرقي ضد تنظيم "داعش"، وفي أقصى ريف اللاذقية الشمالي ضد فصائل المعارضة المسلحة؛ حيث يحاول الجيش السيطرة على بعض النقاط المتبقية.
بيد أن أهمية قرار الانسحاب على المستوى السياسي تفوق أهميته على الصعيد العسكري؛ خاصة أن قرار الانسحاب جاء في يوم انطلاق مفاوضات جنيف؛ والرسالة الروسية كانت واضحة: لقد آن أوان التسوية السياسية. وهو ما أعرب عنه الرئيس فلاديمير بوتين صراحة؛ سواء خلال مكالمته الهاتفية مع الرئيس السوري بشار الأسد، أو أثناء لقائه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في الكرملين. وإزاء هذه النقطة، يمكن رصد الخلاف الروسي-السوري، وإن حاول الطرفان نفي ذلك، وهذا أمر طبيعي في السياسة.
ومراجعة تصريحات مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين ردا على الأسد، الذي رفض الهدنة العسكرية بادئ الأمر؛ ثم تعليق الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على إعلان الأسد عن إجراء انتخابات تشريعية، وأخيرا الاتصال الهاتفي بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والسوري وليد المعلم، عقب تصريحات الأخير السبت الماضي (12 03 2016)، التي نسف فيها أسس مفاوضات جنيف، والتفاهمات الأمريكية-الروسية.. كل ذلك يُظهر أن هدف العملية العسكرية-الروسية في سوريا هو ترتيب شروط التسوية، وليس القتال إلى ما لا نهاية.
ومن الضرورة بمكان التمييز بين روسيا وإيران الداعمتين لدمشق. فإذا كانت الأهداف الإيرانية محصورة ضمن الإقليم، مع ما تحمله من أبعاد طائفية، فإن الأهداف الروسية تتساوق مع مكانتها الدولية.
بعبارة أخرى: إن الدعم الروسي للقيادة السورية هو جزء من رؤية موسكو الاستراتيجية إلى المنظومة الدولية؛ وهذا الفرق يسمح بإجراء تسوية دولية مع موسكو في سوريا، ولا يسمح بإجراء تسوية مع إيران حول سوريا؛ ولهذا السبب تسلمت روسيا منذ نحو سنة إدارة الملف السوري بضوء أخضر أمريكي.
ويبدو أن هدف روسيا الأساس مع الولايات المتحدة هو إجراء تسوية سياسية تؤدي إلى تغيير في منظومة الحكم، وتؤسس لمرحلة ديمقراطية جديدة؛ وهذا ما لم تقبل به دمشق إلى الآن. ولذا، جاء توقيت الانسحاب الروسي، ليؤكد لصناع القرار في سوريا أن الحل الوحيد للأزمة يكون عبر البوابة الروسية، وإلا فستكون التكاليف باهظة على دمشق.
وإعلان موسكو أن سحب القوات جاء بعد تحقيق الأهداف لا يأتي بجديد. ذلك، أن الأهداف قد تحققت قبل بدء سريان مفعول الهدنة، ولا يتطلب الأمر أكثر من أسبوعين للإعلان عن ذلك، فكيف الحال إذا جاء الإعلان في يوم انطلاق مفاوضات جنيف؟
وفي المقابل، لا يعني ذلك تراجعا في الدور الروسي في الأزمة السورية. فالرؤية الروسية-الأمريكية للحل ما زالت هي أساس التفاوض؛ ومن المتوقع أن تزيد موسكو من جهدها الدبلوماسي خلال الفترة المقبلة، لاستكمال تحقيق أهدافها، بما في ذلك إدخال قوى سياسية كردية وغيرها ضمن وفد المعارضة.
وباعتبار أن هذه الخطوة مرفوضة من المعارضة السورية ومن أطراف إقليمية، فإن موسكو تسعى لجعل كلمة هذه القوى (مجلس سوريا الديمقراطي، جبهة التحرير والتغيير) مسموعة في جنيف.
وفي ضوء كل ذلك؛ فإذا كانت العملية العسكرية الروسية في سوريا قد ثبَّتت قدرة موسكو على التحرك عسكريا خارج فضائها الإقليمي، فإن سحب الجزء الرئيسي من القوة العسكرية من سوريا قد ثبَّت قدرتها على أن تكون لاعبا سياسيا رئيسا وجزءا من الحلول السياسية لأزمات كثيرة، ستنعكس إيجابا على روسيا في كثير من الملفات، ولا سيما الملف الأوكراني وتبعاته الاقتصادية.