مهاجرة ناصر

بعد 67 عاما على فقدان الفلسطيني لـ78% من أرضه، وهو ما عرف بعام النكبة (1948)، تأتي الذكرى الـ48 لنكسة العام 1967، والتي فقد فيها ما تبقى من الأرض (22%)، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة.

ورغم فقدان الأرض كاملة، لم يتوقف الفلسطيني يوما عن غرس فلسطين في روحه، وظل يلاحق البلاد التي ضاعت منه عام 1948، مُطلقاً أسماءها على الأبناء، والمحال التجارية والمناسبات الاجتماعية والاقتصادية والرياضية والثقافية والوجهات السياحية، وجاءت النكسة لتعطي البعض أسماء تلائم الظرف والحالة المزاجية التي كانت.

ولم تختلف النكسة كثيراً عن النكبة، بل أجمعت أن لكل فلسطيني على هذه الأرض حكايته، وتقول مهاجرة ناصر (48 عاما)، من دير قديس في محافظة رام الله والبيرة: ولدتني أمي داخل مغارة 'خلة ربيعة'، في الخامس من حزيران 1967، وحين كبرت بضع سنوات بدأت أعرف قصتي، وقصة اسمي الغريب، وإلى الآن وبعد مرور 48 عاما، ما زال الناس في الشارع والعيادة والجسر وكل مكان أذهب إليه، يسألونني عن اسمي، فأخبرهم أني ولدتُ يوم الحرب.

وتضيف مهاجرة بحس فكاهي وخجول: أخبرني أبي أنه احتار في اسمي، في وقت سيطر على مزاجه الظرف الذي كان سائداً، وقال أنه كاد يُسميني 'حربية'.

أم إياد (56 عاما)، شقيقة مهاجرة والتي تكبرها بثمانية أعوام تذكر التفاصيل، فتقول: بقينا خمسة أيام داخل المغارة، وكان معظمنا من النساء والأطفال وبعض العجائز، أما الشباب فهرب معظمهم إلى الأردن. لم يدخل الجيش الإسرائيلي بلدتنا في الأيام الأولى، لكن الناس كانت خائفة مما قد يحدث، ولا تتوقع إلا أشياء سيئة، كأن يقوموا بذبح النساء والأطفال في مجازر شبيهة بما حدث في نكبة 1948، وحين عدنا للبلدة وجدنا القمح الذي جمعناه قد حرقه اليهود.

تضيف أم إياد: بجانب المغارة التي اختبأنا فيها، كان هناك نبع ماء، فنذهب نحن الطفلات الصغيرات لملأ الماء تحت مراقبة أمهاتنا، اللواتي كنّ يصرخن علينا لنسرع، وكنا ننام على الأرض حين تمر طائرة عالية في السماء، خوف أن ترانا فتقصفنا، وكان ممنوع علينا أن نبكي، هكذا قالت النساء الأكبر منا كي لا يستدل الجيش على مكاننا، وكانت النساء تقول لأمي: 'أسكتي مهاجرة'، في حين كان عمر مهاجرة ساعات. عشنا أيام خوف ورعب.

وفي مغارة أخرى قريبة، حيث كانت المغُر والكهوف تخص عائلة واحدة أو جيرانا خرجوا سوية، عاش شريف عوض (48 عاما) من دير قديس، نهاره الأول، ويقول: حدثتني أمي أنها ولدتني ليلة الرابع من حزيران، وبعد ساعات خرجوا لمغارة في طرف قريتنا خوفا من الحرب، وهناك بفعل الرطوبة والخوف الكبير الذي شعر به الناس الذين حشروا في المغارة الصغيرة، حسّ أخي الكبير أن القلب عندي توقف، وبفعل الفوضى التي كانت سيدة الموقف، قال الناس لأبي أنني 'مُت'، ولا بد من دفني سريعا، فخطفتني امرأة من البلدة تُكنى أم محمد، وخرجت بي إلى باب المغارة لوقت قصير، ثم عادت مسرورة وهي تقول: 'الولد عايش، الولد بتنفس'، وبفعل الصدمة أخرجت ثديها سريعا وأرضعتني، وصارت أما ثانية لي، والتي جعل وجودها في تلك الساعة وجودي الآن حيا، ولي أطفالي.

مجازر 1948 دفعت العائلات للاحتماء بالكهوف

تقول نوال سلامة (56 عاما) من عناتا: ذهبت يوم الخامس من حزيران 1967 إلى مخبز أحمد عبد الجواد في وسط عناتا، وكان عمري ثماني سنوات، وما أن وصلت المخبز حتى لحقت أمي بي، وكان أهل البلدة جميعهم على باب المخبز لأنهم سمعوا أن الحرب ستقع، فاشتروا جميع الخبز. حملتني أمي مع الخبز وركضت بي، وكانت العائلة بانتظارنا وذهبنا إلى كهف 'أم الدرج' قرب عين فارة، بين عناتا وحزما، والآن أقيم عليه معسكر 'عناتوت' الإسرائيلي، وكانت في وسط البلد دبابة مدفعية أردنية، وكنا نسمع أصوات قذائف قريبة من القدس، وطائرات تحوم فوقنا، دون أن ندري ما الذي حصل، لكن الناس كانت تقول إن كل شيء في عناتا تدمر، وحين هدأت الحرب عدنا بعد ستة أيام إلى البلدة وكان الجيش الإسرائيلي بداخلها، فيما كان أكثر من نصف سكانها في ذلك الوقت قد نزح إلى الأردن، ونحن تركناها بعد شهر وذهبنا إلى للعيش مع أبي الذي كان يقيم في العقبة، ونقلتنا حافلة تابعة لشركة 'الياسيني'، ورفض جدي الذهاب معنا ولحقنا بعكازه إلى الحافلة وهو يهدد جدتي ويتوعدها إن رحلت، وبقينا هناك خمس سنوات ثم عدنا إلى عناتا.

يسرا الحاج علي (78 عاما) من قرية جماعين في نابلس، كانت أول من غادر بيتها يوم الخامس من حزيران، منذ اللحظة الأولى التي شاعت فيها أخبار الحرب. تقول يسرا: كان زوجي مغتربا في فنزويلا، فحملت أطفالي وبعض الملابس والطعام وخرجت. أوقفني الجيران وطلبوا مني البقاء، لكن شدة خوفي على أطفالي جعلتني لا أتردد في الخروج والاختباء في كهف قريب لستة أيام، وسمعت من الناس أنه في السابع من حزيران كانت هناك سيارات عسكرية ومسلحون في منطقة على مشارف البلدة يسمونها 'العقبة'، فذهب الناس إليهم ظنا أنهم جيش عربي جاء ليدافع عن البلدة، وحين عرفوا أنهم يهود هربوا بعائلاتهم إلى الكهوف.

نكسة حزيران لم تكن فلسطينية فقط، إنما احتلت فيها سيناء والجولان، بعد حرب نشبت بين مصر وسوريا من جهة، والقوات الإسرائيلية من جهة أخرى، واستمرت ستة أيام.