القدس - فلسطين اليوم
لأن الإبداع حدس، انساق خالد استيتية وراء حدسه، مؤمناً بريشته وعمقه الداخلي، مجسداً تفاصيله، طفولته وآماله، والوطن، في لوحاتٍ غزيرة بالألوان والصدق ودقة التفاصيل والبُعد الحسي، متخذاً من قسوة الواقع ضوء دربه.
يشكّل استيتية الطبيعة من حوله وفي مخيلته كما يراها، ويرسم المشاهد الحياتية كما ينبغي أن تُرسم.. تتبّع أعمال الكبار ليحذو حذوهم، بخطى واثقة من أنها ستصل لنظرتها البعيدة في عالم الفن التشكيلي.
ولد استيتية في مدينة نابلس عام 1988 لأسرة بسيطة، والده يعمل في البناء ووالدته ربة منزل.
يقول استيتية لـ'وفا': في مرحلتي الدراسية كنت أذهب مع والدي في أيام العطل المدرسية إلى العمل في ورش البناء، متبعاً بذلك فلسفته في تجريب الحياة، واكتساب جزء من مرارتها فتتجلى صورتها الحقيقية كصحراء لا يجتازها إلا كل ذي جلد، وهذا منحني الصبر لأستمر في طريقي الفني.
إنها الحياة، حين تتطلب من الإنسان أن يكون قوياً وقادراً على خلق التميز، الذي بدونه تغدو حياة الإنسان عادية وروتينية مملة، فالإنسان في نهايته تجربة وتحدٍ وإنجاز.
يتابع: كان دائما يراودني حلم البحث عن ذاتي منذ الطفولة، حتى وجدت نفسي عاشقا للفن التشكيلي، أزور مكتبة البلدية المجاورة لمدرستي، والتي تحتوي على مجموعة من الكتب الفنية التي تبحث في أعمال كبار الرسامين العالمين، ولعلي كنت أزداد حبا لهذا المجال (الفن) بعد استطلاع كل عمل فني، فلم تكن تتلاشى تلك الصور بعد إغلاق دفتي الكتاب، إنما تعيش في داخلي حيوات أخرى .
في الصف التاسع التفت أستاذ التربية الفنية حاتم الحافي إلى موهبة خالد، فقدمه إلى كلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية للاطلاع على أعماله، وسمح له بالدخول إلى الكلية لينال المزيد من الخبرات الأكاديمية، لكنه لم يستمر لأكثر من ثلاثة أيام وترك الكلية بمحض إرادته، وعلل ذلك بمقته تلك النماذج التي يجبر الطالب على تقليدها، ويراها تأسر حريته أمام قماش الرسم، فعاد ليبحث في الفن بشكل شخصي، وقدم أعماله التي رسمها في ذلك الوقت لتشارك في معارض فنية محلية بمدينة نابلس، وحصل في العام 2005 على جائزة أفضل فنان شاب على مستوى فلسطين.
يضيف خالد: كان القدر يوصلني دائما إلى المراحل التي أسعى إليها وكان دعم أسرتي وعلى وجه الخصوص والدي، يدفعني للأفضل ويجعل حلمي كفنان أقرب. في عام 2006 التحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح بشكل رسمي هذه المرة، وبدأت أبحث في أصول الفن وأسبر أغوار علومه، فأصبحت استكشف جانبه العلمي، وكان ذلك يجعلني أشعر بالنشوة مع تحليل كل عمل فني، ولا أخفي أني كنت محظوظا بكون الأستاذ بسام أبو الحيات هو الرفيق والمعلم في تلك الأيام، فأكسبني صدقه ومعرفته الواسعة الأمل لأستمر في طريقي .
بعد إنهاء دراسته عُين في نفس يوم تخرجه مدرسا برتبة مساعد بحث وتدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة النجاح الوطنية، حيث استمر عمله فيها ثلاث سنوات، وعاهد نفسه منذ أول يوم في التدريس ألا يترك العمل في الفن، وقال: مجال التدريس يسرق الوقت، ولا يكاد يترك فرصة لإنتاج أعمال فنية، وهنا قدمت مجموعة من الجداريات، والأعمال ثلاثية الأبعاد في مدينة نابلس كان منها 'تمثال الخلاص' بمناسبة ذكرى النكبة، وتصميم نصب المنطقة الصناعية، بالإضافة إلى مجموعة من المشاركات كان منها مشاركة في معرض جماعي في مدينة ستافينجر- النرويج عام 2011، ومعرض جماعي آخر في لندن عام 2012، ومن بين الأعمال التي رسمتها في منزلي لوحة أرسلتها إلى الأردن للمشاركة بمسابقة الفنان إسماعيل شموط الدولية للدورة الأولى، وفازت بالمرتبة الأولى لتكون جائزتي الدولية الأولى في عام 2011.
في عام 2013 أنهى استيتية عمله في الجامعة، وسافر إلى ايطاليا بهدف دراسة تاريخ الفن، وقال 'تملكني الحماس إلى أن أعيش حياة الفنان في الغربة، وهي ليست بالأمر الهين، ولكن صعوبتها دائما كانت ممزوجة بالأمل وصوره الوردية التي تُنبت السكينة في النفس، أمكث في غرفتي ألتهم الرسم والتجريب، وأعلم أن القدر سوف يُهديني ما أريد، وهذا ما حدث عندما كنت ماراً مع صديقي في إحدى الطرق، فوجدت محلا تجاريا يعرض صاحبه (سيرجيو موريمانو) لوحات صغيرة على بابه. طرقت بابه أسأله عن عرض أعمالي عنده فأُعجب باللوحات وقبل دون تردد، ثم دعاني لأتعرف على السيدة ريتا مانتوانو، والتي بدورها أعجبت بفني، وبذلت الكثير لتقدمني في معرضي الأول في مدينة كوزينسا. هكذا وبعد تقديم معرضي الأول في ايطاليا بتاريخ 15 كانون الأول 2014 تحت عنوان 'طريق مؤلم' وُفقت في لفت الانتباه إلى لوحاتي التي تصور انفعالا في الموت، واحتضان الأشلاء، والإحاطة بالكفن، ولوحات تحوي شخوصا تسير في فضاء اللوحة تارة وتمكث ساكنة تارة أخرى، وكأنها تنتظر عين القدر الذي كنت انتظره. اللوحات كانت مزيجا من الحزن والأمل، فما كان يحدث في غزة من قتل وتدمير في فترة العدوان الأخير كان يفرض على لوحتي ظهورا حادا للموضوع، وكأن اللوحة مسطح من الذكريات المؤلمة، وهذا ما أشار إليه النقاد، ومنهم اليساندرا سجانجا وجانفرانكو لابروشانو.
تجربة المعرض الفني في الغرب أمر عظيم يكشف للفنان أمورا لم يكن بارعا فيها من قبل، كتسويق الأعمال الفنية، وتنظيم الأحداث الفنية، وهنا كانت هذه المرحلة مهمة بالنسبة لخالد كفنان شاب.
بعد الانتهاء من معرضه في كوزينسا التي تعد في إيطاليا مركزا ثقافيا هاما بالعديد من متاحفها ومكتباتها وبمسارحها المحترفة والتقليدية التي كتب عنها الكاتب جورج غيسنغ 'إن وصف المدينة بالفاتنة لا يكفي'، دعته بلدية نابلس لتمثيلها في معرض فني في مدينة كومو شمال إيطاليا، فكان ذلك المعرض بالتعاون مع بلدية كومو، واحتوى على مجموعة من الأعمال الفنية المختارة لعشرين فنانا إيطاليا، حيث التقى استيتية بأصل الفن وعمّق نظرته وريشته صوب ما يطمح، مستفيداً من تجربة الطليان وتاريخهم وحضارتهم في الفن التشكيلي .
يقول استيتية، اليوم مفهومي عن المساحة البيضاء (اللوحة) التي عاشت معي ما يقارب نصف عمري تغيّر، وأصبحت أفهمها برؤية مختلفة فهي وليدة لحظتها، وتتقلب مع تقلبات المزاج، ولكني أعتقد أن الخبرة التي امتلكتها، وتلك التي سوف أمتلكها في المستقبل ستجعل مفرداتي، وخصائص فني أكثر خصوصية، وهذا ما أبذل فيه قصارى جهدي: البحث الدائم، وتجريب كل ما أريد دون إغفال التأمل للواقع، فبين اللوحة المجردة، ورصد الواقع يكمن السر، وهذا ما يجعلني أفكر باللون على أنه العنصر الأساسي في خلق الأشياء وهو المجال اللامتناهي في التأمل، كيف لا وهو يصحب عيوننا كيفما تحركت.
ويختم استيتية: أبدأ بإلقاء الألوان على قماش الرسم وكأني أباشر الحوار مع من أحب، لا أفرض عليه مفاهيمي الشكلية وإنما نتشاركها معا، فاللوحة ترسم جزءا كبيرا من ذاتها بذاتها، حتى أن إبقاء أرضيتها الملونة كجزء حي يسهم في تبلور الرؤية النهائية للوحة بشكل كبير، وفي نهاية العمل أقرر أن لوحتي انتهت عندما أدرك أن يدي لن تضيفا عليها إلا ما ينقصها، فأفضل أن تبقى مكتملة بنقصانها، وأغدرها إلى لوحة أخرى لم تولد بعد، هي الأكثر جمالا .