إبراهيم نصر الله

من أزقة مخيم الوحدات لأسرة مهجرة من قرية البريج في العام 1948، خرج إبراهيم نصر الله، ليصبح أيقونة عالمية في الشعر والرواية.. ما هي حكاية هذا الطفل مع الكتابة؟ وكيف تحولت مأساة المخيم إلى ملهم على المستوى السردي والشعري؟ وهل هناك مساحة للأدب حيث يستوطن الفقر والبؤس والبطالة والتشريد؟

في حوار موّسع مع «أيام الثقافة»، يقول الفائز مؤخراً بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته «حرب الكلب الثانية»: إذا سلَّمْنا أن المرحلة الأولى من حياة الإنسان هي الأكثر تأثيراً في مسار حياته، فإن طفولتي ستلعب هذا الدور بصورة عميقة جداً في مساري الإنساني ومساري الكتابي أيضاً. التحدي الكبير الذي واجَهنا كجيل عاش آثار النكبة مباشرة، وأقسى ظروف الحياة، ألا يغرق في الوحل الذي وجد نفسه فيه، وأن يحيله إلى تراب صالح لنمو الحياة، الأمل، الجمال، كي لا نسقط في فخ السّخط على العالم، وبذلك نتحوّل إلى كائنات سلبية. أظن أن أهم ما فعله كثير من أبناء ذلك الجيل أنه استطاع أن يحالف الجمال ويوجِده، وأن يحمي إنسانيته ويضيء ذاكرته بالأمل، بحيث يكون حليفاً للمستقبل؛ المستقبل الإنساني والمستقبل الوطني. لكن تحقق ذلك كله كان بمثابة معجزة، إذ عليك أن تعمل أكثر، وتجتهد أكثر، وتستوعب مأساة المخيم وقسوة المنفى لتكون جزءاً من نهضة أسرتك في غربتها وشعبك في ضياعه، ونفسك من كل الظروف المحيطة بها، الظروف التي توفر كل شروط زوال هذه النفس وانسحاقها.

ويضيف: تلك كانت معركتنا، معركة آبائنا الذين كانوا في ريعان شبابهم، وأظن أن انتصار ذلك الجيل على مأساته هو الأساس الذي بنى عليه الشعب الفلسطيني فصول قضيته، حيّاً، متحدياً، غير قابل للزوال، ورافضاً أقسى وضع إنساني وجد نفسه فيه.

فلسطين النموذج
* كانت ولا تزال فلسطين، باستثناء بعض الأعمال ذات البعد الإنساني، هي بوصلتك الإبداعية، سواء في الشعر أو الرواية أو حتى في الفن التشكيلي.. لست وحدك من أبناء فلسطين في المنافي من كتبها، لكنك مسكون بها حد الملهاة والشرفات.

- أظن أنني عملت على أن أتنوع دائماً داخل تجربتي، بدءاً من ديواني الأول وروايتي الأولى؛ لكن كل عمل وطني كتبته ينتمي للإنساني أولاً وقبل كل شيء، كما أن كل عمل له علاقة بالإنساني الواسع، كان يضمر في داخله شيئاً ما من فلسطين. حتى قصائد الحب، أحس دائماً أنها ممتلئة بفلسطين، فالفلسطيني حين يحب، يجد نفسه واقعاً في شروط حب مختلفة. كل ما حوله من أشياء له يد في مسار حبه ومصيره. أعتقد أنني حاولت، كما حاول أصدقائي الكتاب الفلسطينيون، وكثير من الكتاب العرب، ونحن نكتب لفلسطين، ونقارع العالم الظالم، سواء كان ذلك الذي فرضته علينا الهجمة الصهيونية وحلفاء هذا الكيان العنصري، أو ونحن نقارع أنظمة تتصهين يوماً بعد يوم، أو زعامات فلسطينية رخوة، حوّلت النضال إلى شكل من أشكال البيروقراطية اللزجة، في علاقتها بتاريخ وطنها وآمال شعبها، وفي علاقتها بعدونا. لقد أحسست دائماً أن علي مسؤولية أن أعمل بكامل طاقتي، وأن أُخلص لفلسطين كنموذج استثنائي للتحرر الإنساني والجمالي، وآمل بأن أكون قد قدمت شيئاً يستحقّ.

البداية شعرية
* كانت البداية شعرية، وكان ثمة تحولات، ولا تزال، في قصيدة إبراهيم نصر الله، واستمر على قيد القصيدة مع أنه أبدع روائياً في زمن باتت في الرواية أكثر حضوراً وانتشاراً.. كيف كانت حكاية البدايات، ولماذا تصر على الاستمرار شاعراً؟

- بداياتي كانت روائية وشعرية، ولم يسبق الشعر الرواية، سبقها في النشر، لكن ليس في الكتابة. لكنني لست مصراً على أن أكون شاعراً أو روائياً. أكتب الآن لأن لدي مشاريع كثيرة في داخلي، ولا أستطيع الهرب منها، إنها تلاحقني نهاراً وليلاً، وتقول لي: اكتبنا.. اكتبنا. وهذا أمر لن أستطيع الفرار منه. لدي مشاريع، شبه ناضجة، تحتاج عشرين عاماً كي تُكتب.

* كيف أفدت قصائدك من تجربتك الروائية، خاصة في الدواوين الأخيرة، والعكس؟

- كما أشرت، الشعر والرواية لدي كتبتهما في المراحل الأولى من حياتي، أيام المدرسة، معاً، ولذا كانا بمثابة توأم؛ من ذلك النوع من التوائم الذين يتصلون روحياً ورؤيوياً ويستشعرون الآلام المشتركة والأحاسيس الغامضة أيضاً، رغم أن لكل منهما كيانه الخاص، لكنهما عاشا طويلاً في رحم واحد، هو روحي هنا، وأفادا من كل ما لمسته هذه الروح من توق للحرية. وقد كان ذلك منذ الأعمال الأولى، التي لم ينشر بعضها، فقصيدة طويلة، ذات طموح سردي مبكر، مثل: المبعوث رقم 1، كانت البذرة الأساسية بعد خمس عشرة سنة من كتابتها لرواية (مجرد 2 فقط)، ورواية طيور الحذر وبراري الحُمَّى وسواهما، ما كان يمكن أن أكتبها لو لم أكن شاعراً. والأمر نفسه في الشعر، إذ كانت الأعمال الشعرية الطويلة، مثل نعمان يسترد لونه، الحوار الأخير، راية القلب، مرايا الملائكة، باسم الأم والابن.. مشاريع شعرية أفادت من الملحمية ومن بنية السيرة، والرواية، والسينما أيضاً. كل ذلك لأنني أعيش في داخل فنين أدبيين، من الداخل، ولا أقول إنني أعايشهما، لأنهما في الحقيقة ذاتي.

* أناشيد الصباح اعتبرت نقطة تحوّل أولى في شعر إبراهيم نصر الله، لكونه انتقل إلى رحابة قضايا إنسانية؟ هذه النقلة أيضاً نجدها في أعمال أخرى، لتشدك فلسطين بجغرافيتها التي تضيق يوماً تلو يوم.. ماذا عن هذه المراوحة بين فلسطين والعالم في تجربتك الشعرية؟

- الذين حشروا فلسطين في (وطنيتها) جعلوها باعتقادي تخسر إنسانيتها ووطنيتها، لكن الذين رأوا جوهر إنسانيتها، ووسعوا ذلك الجوهر، هم من جعلوا فلسطين اليوم قضية ذات بعد كوني ووجودي، ومن حسن الحظ أنني أدركت هذا مبكراً، وبالتأكيد، في ديوانَي (الخيول على مشارف المدينة) و(المطر في الداخل). ما أنقذني هي تلك النصوص الكثيرة التي سبقني كتاب آخرون وكتبوها، وهكذا كانوا عوناً لي، ولغيري، لأن أخطاء تلك النصوص، التي كانت صواباً في ظروفها، هي ما أنقذ نصوصنا، ولذلك أقول: كل خطوة خطاها كاتب قبلك، كان يجب أن تخطوها، ولكنه أراحك من ذلك، ولذا أنت مدين له، سواء كتب نصاً متواضعاً، أو نصاً رائعاً. ولعل كتابا يأتون ويفيدون من أخطاء نرتكبها الآن دون أن ندري.

* ما حكاية «نعمان يسترد لونه» والمنع لمرتين والقضية التي لم تكتمل؟

- حكايتي مع الرقابة والسلطة حكاية مبكرة منذ بداياتي الكتابية، وقد ظلت علاقة اصطدام، أحياناً كانت تظهر في منع الأمسيات الشعرية، أو المنع من السفر، والتضييق عليّ في العمل، أو المصادرة المباشرة لرواية أو ديوان، وصولاً إلى الإحالة للمحكمة، كما حدث في المرة الثانية التي تم فيها منع ديوان (نعمان يسترد لونه)، وقد كتبت عن ذلك كله بوضوح شديد في كتابي (السيرة الطائرة).

نعمان يسترد لونه، من الأعمال التي تأملت فترة سوداء، لكن عبر علاقة حب، وأقصد بهذه الفترة: مرحلة أيلول الأسود. في المرة الأولى التي صودر فيها الديوان، صودر بسبب الجهل وتعصب الرقيب وضحالته، وكان هذا أمراً مفهوماً بالنسبة لي، وكان الغرض مصادرة الديوان، لكن حين صودر في المرة الثانية، كان الهدف هو إيقاع عقوبة على المؤلف نفسه، وكان الجوّ ينذر بذلك، لأسباب واضحة لي، ولذا تم تحويل المؤلف إلى المحكمة، في أول قضية من نوعها في الأردن، إذ لم يسبق أن تم فعل ذلك من قبل. لكن، وكما تعرفين، كان للضجة الكبيرة التي حدثت الأثر الأبرز لجعل الحكومة تسحب القضية من المحكمة، وغض النظر عن تداول الديوان.

الملحمية الشعرية
* الملحمية في الشعر نمط بات يميز نصر الله، كما في «فضيحة الثعلب»، و»الفتى والجنرال»، و»الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق»، وغيرها.. هل هو التجريب أم ماذا، خاصة أنك اتجهت لكتابة القصيدة القصيرة جداً أيضاً، أم أنك كنت تجرب النفس الطويل لكتابة هذا النوع من القصائد؟ وهل كان لنجاحك فيها دور في ملحمية العديد من رواياتك لاحقاً؟

- لا نكتب لنجرب، بل لأن تجربة ما تراكمت، على المستوى الثقافي وعلى المستوى الإنساني، وعلى مستوى التجربة التي عشناها ونحس بأننا لا نستطيع الهرب من الكتابة عنها.
كل هذه العوامل، إذا تجمّعت، تنتج النص الملحمي، أو الفلسفي، السيكولوجي، التاريخي، لا رغباتنا. لقد تعددت مصادري المعرفية والإنسانية، وانفتحت تجربتي منذ ما قبل الكتابة على الفنون، وتطور هذا الانفتاح فيما بعد على فنون أخرى، وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على نصّي الروائي ونصّي الشعري، أو أي نص أكتبه، لكنني أدركت مبكراً ضرورة التنوع، وأدركت أنه لن يكون إلا إذا تعددت روافد التجربة جمالياً وثقافياً وإنسانياً، فعملت على توفير هذا لتجربتي الأدبية ما استطعت.

* آخر مجموعاتك الشعرية «الحب شرير» في العام 2017.. ماذا بعد غياب خمس سنوات عن الشعر، وإصدار مجموعة جديدة في خضم نجاحاتك الروائية المتتالية؟

- هذا الديوان حلم قديم، حلم كتابة عمل أوبرالي شعري، بعد أن كتبت أعمالاً شعرية سيرية، ملحمية، تأملية، وربما روائية أيضاً. كان طموح الأوبرا يلاحقني، وحين تجمعت الشروط الإنسانية، والتجربة التي أستطيع القول: إنها كانت ملموسة، ولِد هذا العمل. لم تكن السنوات الخمس التي تفصل «الحب شرير» عن سابقه استثنائية، فقد سبق وأن فصلت خمس سنوات ديوان مرايا الملائكة عن حجرة الناي. أن تقدم شيئاً مختلفاً في الشعر، وفي أي فن أدبي آخر، أمر ضروري. و»الحب شرير» أيضاً ديوان حب، وكنت أتمنى أن أكتب ديوان حب دائماً، ربما منذ أن هوجمت بعض قصائد ديواني الأول لأنها قصائد حب، ولأنني أحبّ في زمن الحرب!! وتعرفين، إذا ما استثنيا نزار قباني، فالشعراء العرب المكرّسون لم يكرسوا مجموعة شعرية كاملة للحب، إلا في حالات قليلة.

بلدنا
* اعتبرت تجربة كتابة الأغاني لفرقة بلدنا من أهم التجارب في حياتك.. حدثنا عن هذه التجربة؟ ولماذا تكتسب هذه الأهمية؟ وهل من نية لكتابة المزيد من الأغنيات؟ ولو كان من يلفتك لتحويلها أغنيات؟

- هي تجربة موازية لكتابتي الأدبية، كانت وما زالت ضرورية، فما تقدّمه الأغنية مختلف عما تقدمه القصيدة، وربما ساهم حُلمي بالموسيقى في دفعي صوب الكتابة لفرقة بلدنا بشكل خاص.

لقد أثر فيّ مدى تأثير هذه التجربة في الناس، وأنا سعيد لأن أغاني كُتبت قبل أربعين عاماً لم تزل متجددة، كأنها مكتوبة اليوم، والتفاعل معها نفسه.

ما يزعجني، وهذه كلمة كبيرة جداً، أنه لا نصوص غنائية فلسطينية كبيرة نملكها اليوم، ويحزنني أن أصوات غنائية كبيرة تتعثر ذائقتها باستمرار في اختياراتها للنصوص التي تغنيها من قصائد وأغنيات. حتى اليوم لا يعرف كثيرون أن القصيدة الرائعة، ليس من الضرورة أن تكون أغنية رائعة. لا أخفي أن فرصاً جمعتني ببعض المغنين والمغنيات، ولكنهم متشبثون بما يفعلونه، ويجدون في أي اقتراح خطراً عليهم. بعضهم لا يملك أغنية واحدة نستطيع القول: إنها ناجحة حقاً رغم طول تجربتهم، وبعضهم نجحت معه أغنية مصادفة، ولم يستطع تقديم شقيقة ناجحة لها، مع أن ذلك يمكن أن يكون، وبسهولة، لو كانت لديهم موهبة الاختيار إلى جانب موهبة الصوت، ولو كان لديهم أناس يملكون حساسية الاختيار المبدع، ويسمعون لهم. في ظل وجود (ثبات) حديدي كهذا، أو قلة معرفة، وسوء اختيار، من الصعب أن تفكر بالتعاون.

تشكيل وسينما
* ماذا عن الفنان التشكيلي إبراهيم نصر الله؟
- هي تجربة تطوّرت على مدى سنوات، ووجدت طريقها إلى معرض (كتاب يرسمون) في النصف الأول من التسعينيات، مع الصديقين: فاروق وادي وجمال ناجي، ولقيت أيامها حفاوة كبيرة، لكنني أدركت أنني يمكن أن أقدم عبر التصوير مشروعاً أكثر نضجاً، وهكذا أقمت أربعة معارض فوتوغرافية بعد ذلك المعرض.

* كتبت عن السينما أيضاً، وهو شغف لا شك فيه.. ألم يقدك هذا الشغف لتصنع أفلاماً، أم أن لك تجارب إخراجية لم أسمع عنها.. إن كان ما هي، وإن لم يكن لماذا اكتفيت بإبقاء هذا الشغف نظرياً؟
- سيظل طموح إخراج فيلم مسألة ملحّة، كانت هناك محاولة واحدة، بسيطة، لأنها نفذت بوسائل غير احترافية، كانت فيلماً مدته 24 دقيقة عن ناجي العلي، وعرضته مرة واحدة في دارة الفنون بعمان، واقترح علي صديق مخرج أن يشتغل على تقنيته أكثر، صوتياً، ومونتاجياً، لكن ما أطمح إليه هو فيلم أكثر تركيباً من تلك المحاولة.
مشكلة الإنتاج السينمائي أنه عمل يحتاج إلى تمويل، كما أنه عمل جماعي، ولا تقوم المسألة فيه على مجرد تقديم عمل، بل ماذا سيكون مستوى ذلك العمل، كما في أي فن آخر.