رام الله - فلسطين اليوم
في آخر محادثة هاتفية بينهما قال عبد الكريم: 'اشتريت لك فستانا، وتحيرت في هدية مباركة أسعد'.. ردت جنان بفرح: 'شكرا على هديتي، ومباركة أسعد نشتريها معا حين تعود من نابلس'.
كبر أسعد ابن شقيق جنان، وأصبح شابا في عامه الثالث عشر، وما زالت جنان تنتظر الإفراج عن خطيبها عبد الكريم من سجون الاحتلال ليباركا معا بميلاد أسعد.
تقول جنان سمارة (39 عاما) من بلدة بروقين في محافظة سلفيت: بعد تخرجي من جامعة القدس المفتوحة بعامين، جاء عبد الكريم مخضر وطلب يدي من عائلتي، وذلك في حزيران 2002، وكانت الانتفاضة في ذلك الوقت مشتعلة في الضفة الغربية، وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تلاحق عبد الكريم بدعوى أنه يقوم بنشاطات معادية، ومطلوبا لقواتها، ونشرت اسمه وصورته على كافة نقاط التفتيش والحواجز العسكرية في شوارع الضفة الغربية.
تضيف: مع نهايات أيلول 2002، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من خطبتنا، كان عبد الكريم يستعد لمغادرة مدينة نابلس بعد منتصف الليل عبر طريق قرية تِل التي شهدت ارتقاء شهداء عديدين خلال السنوات الأولى من الانتفاضة، وعمليات ملاحقة للشبان وإذلال للأهالي الذين لم يكن أمامهم سوى هذه الطريق لدخول مدينة نابلس، حيث كانوا يسيرون على الأقدام لمسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات للوصول للمدينة.
كان عبد الكريم برفقة أخته حنان، التي لم يقو على تركها تعود لبيتهم في قرية عمورية جنوب نابلس، بعد وصولهما منتصف الطريق في ساعة متأخرة من الليل أوقفهما جيب احتلالي، ما أن دقق الضابط في بطاقة الهوية حتى انفجر بالضحك، قائلا: 'عبد الكريم مخضر' بنفسه جاي لعنا!
تنظر جنان إلى ساعة يدها، ثم تنتقل بنظرها إلى باب البيت الذي بدا ضيقا بعض الشيء، لكن الضوء حاضر من بين دفتيه. جنان أسيرة الوقت الذي يمر، وعبد الكريم أسير القضبان التي لم ترَ جيدا أن الوقت يمر، وتقول: منذ ذلك اليوم لم أصافح عبد الكريم، مرت 13 سنة على اعتقاله وتنقله على جميع السجون الإسرائيلية آخرها سجن النقب. أزوره مرة في الشهر لمدة 45 دقيقة فقط، ويتم الحديث بيننا عبر سماعة الهاتف ويفصلنا زجاج مرئي، أراه ولا أقدر على مصافحته وملامسة التجاعيد والملامح المتبدلة مع مرور الزمن.
تُقلب جنان بأصابعها رسائل ورقية، بعضها اهترأت لكثرة فتحها وإغلاقها، وبعضها ما زال جيدا فقد وصل حديثا، رسائل من شوق وحنين لا يكف عن الصراخ والمناداة في داخلهما، وتقول: جمعت طيلة الـ13 عاما الماضية مئات الرسائل التي دوما تصل متأخرة، نتبادل من خلالها مع عبد الكريم أخبارنا الشخصية والعائلية، وأمورا جدية وخاصة بنا وبمستقبلنا، سيقرأها ضابط السجن واللجنة المختصة بتقييم الرسائل والكشف عنها،. حيث لا خصوصية لدى دولة الاحتلال التي تغتال أفراحنا الصغيرة والكبيرة، وتؤجل أجمل يوم لي، يوم زفافي إلى 18 عاما، بعد أن كان مقررا بعد عدة أشهر.
تقول جنان إنها لا تشارك في الاعتصام والفعاليات التي تُقام نصرة للأسرى، وتحتفظ لنفسها بالدفاع عن حقها المسلوب من قبل الاحتلال، بطرق مختلفة أهمها زيارة أهل خطيبها والاطمئنان عليهم، وإيصال ما يجري خارج حدود السجن لعبد الكريم ومتابعة بناء بيته الذي يُشرف عليه بنفسه من داخل السجن، إذ يطلب بشكل مستمر صورا للبيت ويحدد في زيارات جنان المتكررة ما يريده للبيت، ويحرص على أن يكون ملما بكافة تفاصيله الدقيقة، حتى أن القائمين على بنائه يصابون بالدهشة حين تخبرهم أن عبد الكريم طلب تغيير شيء فيه، ويقولون لها: كأنه هنا من كثرة ما يُلم بتفاصيل تفاصيل بيته.
وتشير جنان إلى أن عبد الكريم يخفي حزنه وحسرته على سنوات عمره خلف القضبان، ويتمتع بمعنويات عالية، لكنها تشعر بألمه في داخلها، فتقول: أزوره 45 دقيقة في الشهر ومن خلف زجاج أحيانا يكون ضبابيا كما في سجن 'أيالون'، وسماعة هاتف صوتها رديء، حيث أضطر أحيانا إلى إعادة الجملة مرتين وثلاثة كي يسمعها بشكل جيد، عدا عن حراس السجن الذي يقفون خلف الزائرين والأسرى بحيث تنعدم الخصوصية تماما، لم يبكِ أمامي طيلة 13 عاما، سوى مرتين: حين استشهد القائد ياسر عرفات وحين توفيت أمه، وظل لفترة طويلة في وضع صحي ونفسي متردٍ جدا حدادا وحزنا على أمه، حيث قال لي في الزيارة الأولى التي تلت وفاتها: أتقبل كل شيء يحصل في الخارج إلا وفاة أمي وأنا بعيد عنها، وما زاد قهره هو عدم تمكنه من المشاركة في جنازتها ووداعها، وطلب صورا كثيرة لجنازتها ليودعها ولو بالصور.
وفي تفاصيل أخرى للقهر الذي يعانيه الأسرى وذووهم، تقول جنان: أصعب سجن بالنسبة للزيارات هو سجن 'نفحه' الصحراوي، حيث تشدد إدارة السجن بشكل ملحوظ على الزيارات ويتم فحص جميع الزائرين وهم عُراة بداخل غرف مخصصة للتفتيش بوجود مجندة، وهذا يغيظ الأسرى ويدفعهم للطلب من ذويهم عدم المجيء لزيارتهم أو تقليل عدد الزيارات كي لا يتعرضوا لإهانة التفتيش العاري، وأكثر من مرة طلب مني عبد الكريم ألا أزوره هناك.
تتابع جنان: يحب عبد الكريم الكنافة والجبنة، ويكره شهر أيلول مع أنه ولد فيه، فقد دخل السجن للمرة الأولى في أيلول 1991 ولمدة سنتين، ومات والده في أيلول، وجاء حبسه الثاني في أيلول! وصرت مثله لا أطيق أيلول أو طريق تل- نابلس. وغضب مني مرة حين أخبرته أني ذهبت إلى مكان عمله على قمة جبل طروجه الواقع بين عمورية واللبن الشرقية، حيث كان يحرس برجا لشركة جوال، وذلك بعد خمس سنوات من سجنه، وطلب مني أن لا أعود إلى هناك أبدا، لأنه سيأخذني في أول مشوار بعد تحرره إلى هناك حيث كان يعمل ويسهر طيلة الليل لوحده، مع الأشجار والمناظر الطبيعية، ويرى بحر يافا حين يكون الجو صافيا، قال لي إن ذلك المكان مكانه ويعشق تفاصيله.
تجمع الحافلات والطرق إلى السجون الإسرائيلية ذوي الأسرى وتعرفهم ببعضهم، فتنشأ علاقات صداقة قوية تمتد إلى باقي أفراد العائلة، ترافقها زيارات متبادلة ومشاركة في الأتراح والأفراح، تقول جنان إنها تعرفت إلى أسرى وعائلات أسرى كثيرين خلال تنقلها بين السجون، وتنقل في كثير من الأحيان أخبارهم عبر ذويهم حين يكون على أحدهم منع من الزيارة، كما يطلب منها عبد الكريم زيارة عائلات أصدقائه الأسرى.
يدخل إيهاب شقيق جنان يحمل صور عبد الكريم، تحفظ جنان الصور في علبة مطرزة على شكل قلب حب، طرزها عبد الكريم ورفاقه في السجن، يكتب بداخله اسمها واسمه، وتخرج منها 'مسبحة' على كل حبة فيها كتب عبد الكريم اسم جنان وعلى الشاهدين اسمه، صور لعبد الكريم منذ عامه الأولى في السجن حيث كان شابا يبلغ 31 عاما، ثم صورة تعقبها صورة ويبدأ العمر بالعد وتبدأ ملامح عبد الكريم بالهرم قليلا ليصبح رجلا في عامه الـ44.
تضيف جنان: وقف معي أهلي، وكانوا سندي، فصبرت على المحنة بالتقرب إلى الله والتحلي بالأمل والقوة. والرجل لا يُعاب بوطنيته، لذا انتظره منذ 13 عاما وسأنتظره خمسة أعوام أخرى، لأنه رجل وطني. أشعر بغيابه أكثر في المناسبات الاجتماعية الخاصة والمناسبات العامة كرمضان والأعياد والأعراس.
لم تلبس جنان فستانها الذي اشتراه عبد الكريم قبل اعتقاله بساعات، مرت 13 سنة، وكبرت جنان على الفستان الذي بقي ذكرى حلوة ومرة من خطيبها، لكن عينيها لا تحيدان عن الفستان الأبيض الذي ينتظرها بقوة إصرارها وأملها في العام 2020 حين يخرج عبد الكريم حرا من زرد السلال وقبضة السجان.