غزة – محمد حبيب
فتحت تقارير لجنة التحقيق الدولية "شاباس" برئاسة الأميركية ماري دايفيز، جدلًا واسعًا داخل "إسرائيل" من تداعيات توصياتها المحتملة على جنود الاحتلال وسياسييه وإمكانية فتح ملفات تحقيق جنائية بتهم ارتكاب جرائم حرب خلال العدوان الأخير على قطاع غزة.
ويتمحور هذا الجدل خصوصًا حول المخاوف التي تساور قادة جيش الاحتلال وضباطه، من حدود المسؤولية الجنائية والقانونية عن هذه الجرائم، وإن كانت تقع على قادة الجيش وضباطه وجنوده، أم يتحمل تبعاتها المستوى السياسي.
وصاغ المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" أمير أورن هذه التساؤلات على النحو الآتي: "من الذي سيتم اعتقاله عند صعوده للطائرة ونزوله منها في المطارات الأجنبية؟ هل الحلقة العليا في سلسلة القيادة هي الجيش أم القيادة السياسية؟ فالحكومة هي القائد الأعلى للجيش الإسرائيلي وتشمل غرفة العمليات العليا القيادة السياسية أيضًا، وبالتالي لن يكون بمقدور القيادات السياسية أو العسكرية العليا التنصل من دورها أو من مسؤوليتها".
وأضاف أن مجرد طرح هذه التساؤلات، يشير إلى حالة عدم الثقة السائدة في صفوف العسكريين، على اختلاف رتبهم، من أصغر جندي إلى أكبر جنرال، وإلى خوفهم من غدر رجال السياسة وتقديمهم قرابين للمحكمة الجنائية الدولية وتبرئة أنفسهم للفرار من العقاب.
ورأى أورن أن ما كان كافيًا في فترة باروخ غولدشتاين، المتطرف الذي قتل عشرات المصلين في الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، لم يعد كافيًا في عهد رئيس لجنة التحقيق في العدوان على غزة عام 2009 ريتشارد غولدستون؛ فقد ظل ملف غولدشتاين شأنًا داخليًا أدارته إسرائيل عبر لجنة تحقيق رسمية إسرائيلية، تغاضى عنها المجتمع الدولي وغض الطرف عن تصريحات رئيس الأركان في حينه، إيهود باراك بأن المذبحة فاجأت إسرائيل تمامًا كما حدث في تعامل حكومة إسرائيل مع مذبحة كفر قاسم عام 1956، وتحويلها إلى مسألة داخلية، بحيث خرج مرتكبوها بعقوبات خفيفة أشهرها فرض غرامة قرش واحد على قائد المذبحة شدمي.
وما يميز الفترة الحالية هو عمق التدخل والبحث العميق في تفاصيل الأمور، وإن كانت إسرائيل سارعت بعد تقرير غولدستون، إلى تشكيل لجنة "تيركل" للتحقيق في مجزرة أسطول الحرية ومقتل المتطوعين على متن السفينة "ما في مرمرة"، فإن هذه اللجنة، التي منحت إسرائيل حماية وبوليصة تأمين من المحاكمة، وأبقت السلك السياسي خارج العملية كلها، لم تعد كافية بدورها.
وبحسب أورن، فإن ضابطًا رفيعًا في جيش الاحتلال الإسرائيلي، طرح السؤال المؤرق للجنود والضباط: "هل سيقوم السياسيون برمي جنود الجيش وضباطه للكلاب؟" ليضيف أن ذلك لن يساعدهم هذه المرة، لأن أحدًا في العالم لن يصدق أن قائد المنطقة الجنوبية في الجيش أو رئيس أركان الجيش مسؤولان عن الحرب على غزة، أو أن قائد المنطقة الوسطى هو صاحب الكلمة الأخيرة قي الضفة الغربية، وليس وزير الأمن أو رئيس الحكومة، وأن الجيش استيقظ في صباح أحد الأيام وبدأ يتحرك بمفرده، كي يتسنى للمستوى السياسي أن يتنصل كليًا من أية مسؤولية.
وأشار أورن إلى المجلد الضخم الذي وضعه المستشار القضائي لوزارة الدفاع الأميركية "بنتاغون"، ستيفان بريستون، كدليل قانوني ومرجع لأذرع الجيش الأميركي في كل ما يتصل بمحاذير القانون الدولي في الحروب وفي "الحرب على التطرف"، وخلص إلى القول إن الدليل المذكور يحدّد مسؤولية عليا عن جرائم الحرب تصل إلى حدّ باب الرئيس الأميركي.
ومع أن أورن يقرّ أن دليل وزارة الدفاع الأميركية ليس ملزمًا بالضرورة لإسرائيل، لكن يمكن من خلاله توقع ما يمكن أن يردّ به ممثلون أميركيون في حال تقديم ادعاء إسرائيلي بأن المسؤولية تنتهي عند المستوى العسكري، وذلك عند تقديم لوائح اتهام في المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب، أو أي هيئة قضائية دولية أخرى.
ويتساءل أورن عما إن كان سيتم التضحية بقائد عسكري أمر بقصف حي سكاني في رفح، وفق المعلومات التي وصلته من "الشاباك" والاستخبارات العسكرية وبموافقة المستوى السياسي، أم إنهم سيمثلون إلى جانبه على مقعد الاتهام، "وهل سيضاف إليهم المستشارون القضائيون الذين شاركوا في المشاورات التي سبقت العملية ووضعوا توقيعهم على قانونيتها؟".
ونوه إلى لجنة تيركل، التي برأت ساحة الجيش من جريمة "مرمرة"، ووضعت توصيات تبلورت إلى دليل إسرائيلي بشأن تحديد سبل تطبيق أحكام القانون الدولي في الحرب، ومنع الإبادة وجرائم الحرب، لكنه قال إن هذه التوصيات جاءت في صالح المستوى السياسي.
وأورد أن الجيش يطالب بأن يكون التشريع الإسرائيلي في هذا السياق متساويًا لا يغبن حق العسكريين ويوازي بين مسؤولية المدنيين "رجال السياسة والمستشارين القانونيين" ومسؤولية الجيش وقادته وعناصره، وطالب ضباط الجيش في هذا السياق أن تحدد التشريعات عبارة مسؤولية جنائية، دون إضافة الكلمة مباشرة، وذلك كي يضمنوا أن تسري المسؤولية أيضًا على رجال "الشاباك" الذين زودوهم بالمعلومات الاستخبارية، كما على الوزراء، وتقليص نطاق العامل الذاتي للقائد العسكري أو الجندي.
واستعرض تجارب سابقة تم خلالها التشدد مع السلك المهني "الشاباك، والشرطة والموساد" في حالات الفشل، مقابل التساهل مع المستوى السياسي كما في قضية محاولة اغتيال خالد مشعل، وأشار أيضًا إلى أن مطلب جيش الاحتلال الحالي بتوزيع المسؤولية على الطرفين يصطدم بمسعى الحكومة إلى تفصيل نصوص تضمن تبرئتها وإخراج عناصرها من دائرة المساءلة، وهو ما دفع برئيس لجنة تيركل، القاضي المتقاعد يعقوف تيركل، إلى القول إن المسؤولية يجب ألا تتوقف عند حد معين وينبغي أن يتحمل كل مستوى من مستويات القرار مسؤوليته.
لكن ما لم يشر إليه أورن في هذا السياق وعلى مدار تقريره، هو أن قادة وعناصر جيش الاحتلال الإسرائيلي كانوا يريدون الاختباء، كما في حالات سابقة لجرائم الاحتلال، وراء مقولة إنهم نفذوا الأوامر، وهي مقولة تردّدت خلال الانتفاضة الأولى، عندما تهرب جنود جولاني وجفعاتي من جرائم التنكيل وتعذيب فلسطينيين خلال المواجهات، مما اضطر المحكمة العليا تحت قيادة أهرون براك، إلى إنشاء عبارة "أمر غير قانوني ترفرف فوقه راية سوداء".
ويسعى جنود وضباط الاحتلال مجددًا إلى التلويح بأنهم نفذوا الأوامر، عند مثولهم أمام المحكمة الجنائية الدولية، ودحرجة المسؤولية على القادة الأعلى رتبة.