واشنطن ـ فلسطين اليوم
يجهل العلماء أغلب الأسباب الأكيدة المسببة لمرض التوحد "autism"، إلا أن هناك الكثير من العوامل التي قد تلعب دورًا مهمًا في حدوثه، ومنها تضافر العامل البيئي والعامل الجيني وسوء التغذية. ولا شك أن تلوث البيئة أصبح من الشواغل الرئيسية لمنظمة الصحة العالمية، بل وللحكومات المختلفة، نظرًا للمخاطر الصحية المتزايدة المرتبطة به، وأهم هذه الملوثات البيئية مستوى المعادن الثقيلة "heavy metal" الموجودة في الهواء الذي نستنشقه، التي يمكن أن تتسبب في كثير من الأمراض إذا زادت عن نسب معينة.
ويتزايد هذا الخطر كل يوم مع التقدم الصناعي والتكنولوجي، خصوصًا في الدول المتقدمة التي تنتشر فيها المصانع المختلفة، والتي تحفل الأبخرة المنبعثة منها بآلاف الملوثات. "التلوث والتوحد" أحدث دراسة ناقشت دور العامل البيئي في حدوث الأمراض، ونُشرت في مجلة "journal Nature Communications" في مطلع يونيو / حزيران الجاري. وأشارت إلى العلاقة بين زيادة التلوث بالمعادن الثقيلة وزيادة احتمالية التعرض لخطر حدوث التوحد، وذلك تبعًا لأحدث البيانات الواردة من مركز مكافحة الأمراض واتقائها "CDC" في الولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا أن هناك واحداً بين كل 68 طفلاً أميركيًا يعاني من درجة ما من درجات التوحد، فمن المعروف أن هناك أطيافًا عدة للتوحد تختلف في الحدة من طفل إلى آخر.
وعلى الرغم من أن هناك كثيرًا من الدراسات التي ناقشت الصلة بين التلوث البيئي والتوحد، فإن هذه الدراسات كانت محدودة بسبب استخدام وسائل غير مثالية لتحديد تركيز المعادن، وعلى سبيل المثال، اضطرت الدراسات السابقة لاعتبار قياس تركيز هذه المعادن في الدم هو العامل المحدد لحدوث المرض، بغض النظر عن فترة التعرض، كما أن أولئك الأطفال تم قياس تركيز هذه المعادن في دمائهم بعد تعرضهم بالفعل للإصابة بالتوحد. وأيضًا كانت هناك مشكلة في الدراسات السابقة، وهي عدم إمكانية فصل العامل الجيني عن العامل البيئي في الإصابة بالمرض، وهو الأمر الذي كان يؤثر على النتيجة النهائية، والذي تمكنت من تحقيقه هذه الدراسة حتى يتسنى للباحثين الحكم على دور العامل البيئي فقط. واستخدم الباحثون الأسنان اللبنية التي يفقدها الطفل بشكل طبيعي وسيلة لمعرفة معلومات عن الرضيع في مرحلة الجنين، ما قبل الولادة في رحم الأم، ومن خلال إجراء الدراسة على توأم أمكن فصل العامل البيئي عن العامل الجيني، إذ إن كل توأمين يحملان الجينات نفسها من الأب والأم.
ولمعرفة تركيز المعادن الثقيلة في جسم الطفل قبل الولادة وبعدها، استخدم الباحثون الليزر لتحليل حلقات النمو للطبقات المختلفة المكونة للأسنان، خصوصاً طبقة الدينتين "dentine" (المادة العاجية) التي تقع تحت مينا الأسنان "enamel"، خصوصًا أن تقنية الليزر مكنتهم من التوصل إلى فصل طبقات معينة (في الحياة الجنينية تبدأ عملية تكوين الأسنان ليس بشكلها المتعارف عليه بالطبع، ولكن بدايات الطبقات المكونة لها). وهذه الطريقة تشبه إمكانية معرفة عمر شجرة معينة من خلال أخذ مقطع عرضي في جذعها. ومن خلال حلقات النمو المختلفة يمكن التوصل إلى معرفة هذه المراحل من خلال الدوائر في الجذع، وكان الفريق البحثي نفسه في محاولة سابقة قد توصل إلى التوافق بين مستوى نسب الرصاص (من المعادن الثقيلة الضارة بصحة الإنسان) في طبقة الدينتين أثناء نموها وتعرض الجسم لاحقًا لنسب أخرى من الرصاص.
ونظرًا لأن الاعتقاد بأن التوحد في الأغلب يبدأ مبكرًا جدًا في المرحلة الجنينية، فإن الأسنان تصبح اختيارًا جيدًا لإثبات ذلك، لأنه في الفترة التي يتم فيها تشخيص التوحد في الطفولة المبكرة، عند عمر 3 أو 4 سنوات، يكون من الصعب جداً تحديد مقدار ما تعرضت له الأم من الرصاص أثناء الحمل. وفى البداية لاحظ الفريق البحثي أن التوائم الذين يكون أحدهم من المصابين بنوع من أطياف التوحد، كانت لديه نسب عالية من الرصاص في الدم، سواء أثناء الحمل أو في الأسابيع القليلة بعد الولادة، بل إن مستوى الرصاص في الشهور الثلاثة الأولى يحدد حدة الأعراض لاحقاً في عمر الثامنة، أو التاسعة.
ولتحديد أثر التوقيت الذي تم فيه التعرض، ومقدار التعرض، وحدته في التأثير على الإصابة، فحص الفريق 32 من التوائم المتماثلة والتوائم غير المتماثلة، الذين كان أحدهم على الأقل مصابًا بالتوحد، وأيضًا 10 من التوائم الطبيعيين. ودرسوا تركيب الأسنان، إذ أن فترة تكوين الجنين والطفولة يتم كل أسبوع فيها تكوين طبقة جديدة للأسنان، تاركة ما يشبه البصمة الخاصة للتركيب الكيميائي الدقيق لكل سنة على حدة، مما يمكن أن يشكل تاريخاً للتعرض الزمني للرصاص وبقية المعادن الثقيلة.
وأوضح العلماء أن الأمر يستدعي مزيدًا من الدراسات لمعرفة هل تتحكم النسب من المعادن الثقيلة فقط في الإصابة، أم أن الطريقة التي يتعامل الجسم بها مع هذه المعادن لها دور، خصوصًا أثناء التعرض في رحم الأم، مبينين أن استخدام تقنية الليزر في دراسة تطور الأسنان يعتبر تقدمًا رائعًا، حيث تعتبر "السنة" بمثابة سجل أرشيفي للحياة الجنينية والطفولة، يمكن من خلالها معرفة كثير من المواد التي تعرض لها الجنين أثناء فترة الحمل.