بغداد – نجلاء الطائي
كشفت محكمة تحقيق الأعظمية عن القبض على سماسرة لبيع الكلى يجرون عملياتهم داخل أحد المستشفيات الأهلية في بغداد، وهناك الكثير من القصص التي تمت في هذا الشأن، وليس أولها رواية الفتاة نور والتي كانت في الـ16 من عمرها فقط حين أقنعها والدها بضرورة التبرع بكليتها لشقيقتها الكبرى سيماء التي تعاني من عجز كلوي حاد، فيما أقدمت نور على التبرع بشجاعة لا تناسب سنها بهدف إنقاذ شقيقتها وعاشت بكلية واحدة وبصحة جيدة، لكن الأمر لم يخل من محاذير طبية فيما بعد، اضطرتها إلى مغادرة مقاعد الدراسة وتم تزويجها مبكرا لتفادي حالة الإحباط التي شعرت بها.
والمؤلم في الأمر أن صحة سيماء لم تتحسن وتجددت حاجتها إلى كلية أخرى، ولما لم يجد والدها ميسور الحال متبرعا آخر من أشقائها، اضطر إلى شراء كلية لها من فائز وهو شاب من أقربائه مستغلا سوء حالته المادية.
وبعد تطابق الأنسجة وموافقة الأطباء على تبرعه لها بكليته، أهدى والد سيماء الشاب فائز فرصة عمل جيدة ومبلغا مناسبا من المال ليبدأ به حياته. وكانت المحصلة بعد فقدان الشابين نور وفائز لكليتيهما واضطرارهما للعيش بكلية واحدة، أن توفيت سيماء في سن العشرين بعد توقف عمل الكليتين على نحو مفاجئ.
ولا يعد ما حدث لسيماء دليلا على فشل عمليات التبرع أو بيع الكلى وزرعها لأشخاص آخرين، فأغلب المتبرعين ومستقبلي الكلى المزروعة يعيشون بصحة جيدة ويواصلون حياتهم، لكن وصول المرضى إلى بر الأمان يقتضي دون شك وجود متبرع مناسب من عوائلهم أو امتلاكهم ما يكفي من المال لشراء كلية متبرعون، وقد لا ترى العين الباحثة عن متبرعين، أشخاصا يبدون استعدادهم لذلك علنا أمام ابواب المستشفيات كما يحدث في حالة التبرع بالدم، لكن السؤال عن ذلك يقود حتما إلى حقائق ربما تخفى عن البعض. ففي مستشفيات تجرى فيها عمليات زرع الكلى كاليرموك والكرامة الحكوميتان والخيّال والنجاة وسواهما من المستشفيات الأهلية، يمكن العثور على متبرعين بسهولة بعد الإمساك بأول خيط يقود أهل المريض إلى شبكات تمارس بيع الكلى كتجارة شائعة.
وتروي رؤى حازم بمرارة قصة شرائها كلية من سوق (بيع الكلى) لشقيقها الذي توفي فيما بعد، فتقول إنها استدلت قبل سنوات على أشخاص يعملون في تجارة بيع الأعضاء البشرية حين تعذر عليها التبرع لشقيقها بكليتها، وتضيف "ينتشر هؤلاء الأشخاص قرب المستشفيات الحكومية والأهلية، ولديهم علاقات وطيدة مع بعض العاملين في المستشفى والذين يعملون على التنسيق بين أهالي المرضى وباعة الأعضاء، ينتقل بعدها الزبائن إلى التعامل مباشرة مع أعضاء من تلك الشبكات للاتفاق على المبلغ وأسلوب شراء الكلى.
وتتابع "أن اهالي المرضى لا يتدخلون في اختيار الواهب، وذلك لامتلاك أعضاء تلك الشبكات خبرة كافية تمكنهم من اختيار الشخص المناسب وضمن مراحل عمرية تتراوح ما بين عمر الفتوة وعمر الشباب، وتشير إلى وجود شخص كان يطلق عليه لقب (الشيخ) يتحكم في هذه العملية بمهارة، فيدير شبكات لبيع الأعضاء البشرية تضم أشخاصا يعملون في المستشفيات ووسطاء وسماسرة يعملون على استدراج الواهبين مستغلين حاجتهم إلى المال.
وتوضح أن نشاط ( الشيخ ) تركز قرب مستشفى اليرموك، وينطبق الحال على مستشفيي الكرامة والخيّال حيث انتشار مافيات أخرى تمتهن الحرفة ذاتها وبأساليب خاصة بها. والغريب في الأمر، كما تروي، أن الشخص المدعو ( الشيخ ) توفي فيما بعد لحاجته الماسة إلى كلية بعد أن عجز أهله عن إيجاد واهب تتناسب أنسجته مع أنسجة (الشيخ).
ويرى الدكتور عبد الأمير عباس، المتخصص في جراحة الكلى والمسالك البولية، أن ظاهرة التبرع بالكلى ترتبط بجانبين أولهما انساني والثاني هو اقتصادي ويتمثل بفقر حال الواهبين.
ويشير إلى عدم وجود رقابة مشددة في المستشفيات طالما لا تعد المستشفى جهة رقابية وإنما يتم إجراء العمليات فيها وفق مبدأ وجود شخص مريض وآخر متبرع. ويؤكد عباس عدم قدرة الطبيب على تحديد ما إذا كان المتبرع بالكلية قد باعها إلى الشخص الثاني، إذ لو علم الطبيب بذلك لما قام باجراء العملية لأنها تعد في هذه الحالة عملية تجارية تخالف شروط المهنة وأداء القسم بالنسبة للطبيب، والذي يقوم على شرط (عدم إجراء أية عملية تؤدي إلى إيذاء إنسان).
قبل سنتين، كان جميل "18 عاما" يعمل في معمل أهلي لتصنيع سماد الحيوان، ويقضي نهاره في تصنيع السماد ليحصل في نهاية النهار على أجرة يومية تصل إلى عشرة آلاف دينار تكفيه إلى حد ما للإسهام في تسيير أمور عائلته البسيطة المكونة من والده بائع (الحلوى) ووالدته المسنة وشقيقتيه اللتين تعملان في خياطة العباءات النسائية. وبعد الظروف الطارئة التي عصفت بالمجتمع العراقي، اضطرت عائلة (جميل) إلى مغادرة منزلها الفقير هربا من العنف الطائفي ثم الاستقرار تحت أنقاض منزل تعرض للقصف والتدمير في العاصمة، ليواجه (جميل) ووالده صعوبة كبرى في إعالة أسرتهم الصغيرة، ما دفع جميل إلى العمل في مقهى صغير مجاور لإحدى المستشفيات.
ويعترف (جميل) ببيعه كليته مقابل (5000) دولار معلنا عن رغبته بشراء سيارة أجرة مناسبة بهذا المبلغ وممارسة القيادة في شوارع العاصمة لحين العودة إلى محافظته بعد استقرار الوضع الأمني كليا، في الوقت الذي يؤكد والد (جميل) جهله بما فعله ابنه وينتقده حتى لو كان ذلك بهدف إنقاذ عائلته على اعتبار أن الله تعالى كرّم البشر وخلق الإنسان في أحسن تقويم وسوف يحاسبه عما فعل بأعضائه في الحياة الدنيا والآخرة.
ويقر (م) وهو أحد العاملين في معهد الطب العدلي، بوجود حالات عدة لبيع أعضاء الجثث التي لم يمض على مفارقتها الحياة أكثر من نصف ساعة، إذ تحفظ الجثة في حافظ حراري خاص، ويتم نزع الأعضاء المطلوبة منها بعد دخولها قسم التشريح دون أن يكتشف أهالي الضحايا ذلك، ثم يتم بيعها لشبكات بيع الأعضاء وتسويقها للمرضى المحتاجين مقابل مبالغ تتراوح ما بين 4000 - 10000 دولار.
ويخشى (م) من التصريح بعلاقة أطباء التشريح والعاملين في المعهد وأقسام التشريح في المستشفيات بهذه المافيات، مكتفيا بالإشارة إلى فقدان أغلب الجثث لأعضائها بعد نقلها بسرعة إلى المستشفيات والطب العدلي ودخولها إلى قسم التشريح.
من جهتها، تؤكد الدكتورة المنتسبة إلى مستشفى الكرامة، وجود مافيات متخصصة تدير تجارة الأعضاء في البلاد ينصب عملها على إيجاد الزبائن الملائمين وتوفير الواهبين، والاتفاق على المبالغ المطلوبة وقبض العمولة الخاصة بالعملية من الأطباء أو المستفيدين من الزرع، علما أن اغلب الواهبين يتسلمون مبالغهم مقدما وقبل إجراء العملية لهم.
هذا وكشفت محكمة تحقيق الأعظمية عن القبض على سماسرة لبيع الكلى يجرون عملياتهم داخل أحد المستشفيات الأهلية في بغداد، وفيما أشارت إلى أن المتهمين يستغلون ضعف الحالة المادية لزبائنهم أو صغر سنهم ليتم ايهامهم بمبالغ كبيرة لا يتسلمون منها إلا قسط بسيط، أكدت أن المشرّع العراقي يحاسب جميع أطراف هذا النوع من الاتفاقات.
وقالت القاضية إيمان غضبان عودة، إن "محكمة تحقيق الأعظمية سجلت خلال المدة الماضية الكثير من جرائم الاتجار بالأعضاء البشرية، مشيرةً إلى أن "مكتب التحقيق الذي يقع ضمن قاطع عملنا وصولته معلومات عن قيام بعض السماسرة بشراء كلى مواطنين".
وفيما لفتت إلى أن "القبض على الكثير من المتهمين بهذا النوع من الجرائم"، تؤكد أن "السماسرة قاموا باستغلال وجود مستشفى أهلية متخصص بزراعة الكلى في المنطقة لأجل القيام بعملياتهم المشبوهة".
واستطردت عودة أن "مجلس القضاء الأعلى يتابع باستمرار هذا الملف"، مشيرة إلى "تخصيص محكمة تابعة لاستئناف الرصافة تتولى النظر في قضابا الاتجار بالأعضاء البشرية". وتوقّعت قاضية تحقيق الأعظمية أن "تشهد الأيام المقبلة القبض على المزيد من المتهمين وإحالتهم على المحاكم لمحاسبتهم عن هذه الجرائم الخطيرة". وتواصل بالقول إن "المشرّع العراقي لا يحاسب المتبرع بكليته من دون مقابل"، منبّهة إلى أن "العقوبات تطال من يقوم ببيعها وكذلك السماسرة بوصفها أعمال تتنافى مع الطبيعة الإنسانية".
من جانبه، أفاد القاضي علي ناهض بأن "السماسمرة يستغلون صغار العمر، وذوي الدخول الضعيفة لأجل إغوائهم بالأموال لقاء التخلي عن كليتهم". وأضاف ناهض أن "المتهمين في العادة يدخلون المستشفى بصفة متبرعين لدفع الشبهة عنهم وحتى لا يتم محاسبتهم". ونوّه إلى "أنهم يتسلمون قسطاً بسيطاً من هذه المبالغ لا تتجاوز 75 ألف دينار، على أمل أن يحصلوا على المتبقي والذي يصل أحياناً إلى 10 ملايين بحسب الاتفاق بعد انتهاء العملية".
واسترسل ناهض أن "المتهم وبعد خروجه من صالة العمليات لا يجد التاجر الذي اتفق معه وهو بالتالي يفقد كليته والأموال التي كان سيحصل عنها لقاء تخليه عنها". وخلص بالقول إن "المحكمة فاتحت الجهات الصحية ذات العلاقة لمراقبة المستشفيات التي تجرى فيها عمليات زراعة الكلى لمنع وقوع حالات مخالفة للقانون، وتعد الكِلى هي الأعلى سعرا والأكثر طلبا، في حين توجد هناك أعضاء أخرى مطلوبة مثل العين والكبد والنخاع وأيضا الجلد البشري.