واشنطن - فلسطين اليوم
اتضحت الصورة العامة لنهج القوى الاقتصادية الكبرى، مع ختام اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في نهاية العام الماضي، إذ تخيل البعض، مع بداية العام، أن العالم سيتجه في عهده إلى حرب اقتصادية عنيفة، بالنظر إلى ما أعلنه من سياسات، إلا أن المحللين يرون الآن أن إدارة ترامب والقوى الأخرى تمارس "اختبارات تحمل" لمدى قابلية الآخر للتنازل، والرجوع خطوة إلى الخلف، لكن أحدًا لا يرغب في صدام حقيقي.
وأوضح الخبراء أن الوضع العالمي لا يحتمل أي خسائر، وكذلك الإدارات الجديدة في الدول الكبرى، التي لا ترغب في خسارة شعبيتها مبكرًا، وبعد هجوم عنيف على سياسات الحمائية الأميركية، من قبل عدد كبير من الدول الكبرى والمؤسسات الدولية، انتهت لقاءات مسؤولي وقيادات مجموعة العشرين، على هامش اجتماعات الصندوق والبنك الدوليين، بتفاهم واضح، ما يظهر أن جميع الأطراف فضلت التوافق بدلاً من الهجوم والخسائر، وتأكد ذلك بغياب أي اتهام لأميركا بالحمائية من الصندوق، في البيان الختامي للاجتماعات، بينما بدأت الإدارة الأميركية هذه المرة في الهجوم، إذ أعلنت معارضتها مشروع البنك الدولي، الرامي إلى زيادة رأسماله لتعزيز قدراته على الإقراض، وطالبت صندوق النقد الدولي بتشديد رقابته على الاختلالات الاقتصادية.
ويذكر أن رئيسة صندوق النقد الدولي، كريتسين لاغارد، هاجمت أكثر من مرة سياسات الحمائية التجارية التي يدعو إليها ترامب، بينما يدعو البنك الدولي، منذ أشهر، إلى زيادة موارده من أجل تقديم مساعدة أفضل إلى الدول الفقيرة، وتمويل النمو الاقتصادي لدول مثل العملاقين الصيني والهندي. وقال رئيس البنك الدولي، جيم يونغ كيم، عند افتتاح الجمعيتين العامتين الربيعيتين لمؤسسته ولصندوق النقد الدولي، الخميس: "أعتقد أن زيادة رأس المال ضرورية، إن أردنا الاستجابة لتطلعات الكثير من الدول عبر العالم".
ورفضت الولايات المتحدة، الممول الأول للبنك الدولي، هذه الدعوة، وأعلن وزير الخزانة الأميركي، ستيف منوشين، في بيان صدر في ختام الاجتماعين، أن هذا النقاش غير ضروري وغير واقعي. وقال: "نعتقد أن بوسعنا القيام بالمزيد لتحقيق حصيلة مالية مثلى للبنك الدولي، وتفادي تراجع سريع في قروضه. ويتبع البنك الدولي منذ سنوات خطة ادخار أثارت استياء بين موظفيه، وحض منوشين في بيانه البنك الدولي على تركيز جهوده بشكل أكبر على نتائج مشاريعه الإنمائية.
وقال إن تعزيز عملية تصميم مشاريع البنك ومتابعتها وتقييمها والإشراف عليها أمر أساسي، لضمان فاعلية حقيقية.وفي بيان آخر، طالب منوشين صندوق النقد الدولي بالمراقبة المشددة للاختلالات الاقتصادية التي تساهم في نشر الانطباع بأن النظام المالي لا يستفيد منه الجميع، قائلاً: "ينبغي أن يشمل ذلك تحليلاً لسياسة الدول على صعيد معدلات الفوائد، والاختلالات الخارجية".
وتسعى إدارة الرئيس ترامب إلى تقليص العجز في الميزان التجاري وفي الحسابات الجارية، الذي تراكم على الولايات المتحدة تجاه دول مثل الصين وألمانيا. وأكد منوشين، في هذا الصدد، أن الفائض التجاري الكبير، كما العجز التجاري الكبير، لا يساهمان في قيام نظام تجاري حر وعادل.
وعلى الجانب الآخر، قال وزير المال الألماني، فولفغانغ شويبله، في واشنطن، الجمعة، إن الاقتصادات الرائدة في العالم تشجع حرية التجارة، ولا تشعر بالقلق من ميول الرئيس الأميركي الحمائية.وتتولى ألمانيا حاليًا الرئاسة الدورية لمجموعة العشرين للاقتصادات المتقدمة والناشئة الرئيسية. واستضاف شويبله، الشهر الماضي، في ألمانيا، محادثات بين وزراء مال المجموعة، الذين اجتمعوا مجددًا في واشنطن، على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي. وأكد شويبله أن وزير الخزانة الأميركي أبلغ نظراءه في مجموعة العشرين بأن إدارة ترامب الجديدة لم تتخذ بعد قرارات نهائية بشأن عدد من القضايا، التي تشمل السياسة التجارية، مبينًا أن وزراء مجموعة العشرين كان لديهم توافق واسع في اجتماعاتهم الأخيرة على أن التجارة الحرة أفضل للنمو العالمي، وأفضل لمصلحة كل اقتصاد وطني.
ومن جانبه، قال جينز فيدمان، رئيس البنك المركزي الألماني إن الجميع تقريًبا في اجتماعات وزراء مجموعة العشرين شددوا على خطورة الآثار السلبية للنمو الناجمة عن إقامة الحواجز أمام التجارة، كما قال رئيس المصرف المركزي الألماني "بوندسبنك"، ينس فايدمان: "ما فهمته من الاجتماع أن عددًا كبيرًا من المشاركين أكدوا التأثير السلبي للحواجز الجمركية". كما دعا حاكم مصرف الصين المركزي، زو شياوشوان، في بيان له، إلى مقاومة الحمائية بصورة مشتركة، وتسريع تحرير التجارة العالمية. ويتعارض هذا الإجماع مع آخر اجتماع لوزراء مال المجموعة، في مارس / آذار الماضي، في ألمانيا، حيث برزت الانقسامات بين الولايات المتحدة وشركائها إلى العلن. ونجحت حينها إدارة ترامب، التي تهدد بوضع حواجز جمركية، وتشكك في التبادل الحر، في عدم إدراج النداء التقليدي لمحاربة الحمائية في البيان النهائي، وبعد شهر، بدا أن هذه الدول اتجهت إلى التهدئة، لكن وزير الخزانة الأميركي حذر من أن بلاده مستعدة لمحاربة الممارسات التجارية السيئة بحزم، مع إعلان تأييده توسيع التجارة مع الدول التي "تلتزم بقواعد اللعبة".
وخلال مداخلته أمام الهيئة الإدارية لصندوق النقد الدولي، فضل منوشين جذب الانتباه إلى انعدام التوازن في الاقتصاد العالمي، مهاجمًا بشكل خاص الدول التي تراكم فوائض تجارية كبيرة، وتحافظ على موازنات قوية، دون أن يذكر ألمانيا والصين بالاسم. وأوضح وزير المال الفرنسي، ميشال سابان، أن الولايات المتحدة ليس لديها موقف إزاء المسائل الاقتصادية العالمية الحاسمة. وأضاف، في تصريحات إلى وكالة الصحافة الفرنسية، أن الموقف الأميركي، الذي كان المسألة المركزية للاجتماع الأخير لمجموعة العشرين، لم يعد كذلك. وأضاف: "الأمر يبدو مطمئنًا من وجهة نظر معينة، هذا يعني أن الإدارة الأميركية تفكر في اتخاذ مواقف جدية". لكن مسائل الخلاف المحتملة لا تزال كثيرة، فإدارة ترامب تشكك في حقيقة التغير المناخي، وتهدد بالانسحاب من اتفاق باريس بشأن انبعاثات الغازات الملوثة.
وقال رئيس البنك الدولي، جيم يونغ كيم، في إشارة إلى تولي دونالد ترامب السلطة، إن التوافق العلمي على التغير المناخي لم يتغير لأن شخصًا ما تم انتخابه. ووعدت الإدارة الأميركية بتخفيف الضوابط المالية التي اعتمدت بعد أزمة 2008، وهو ما يقول صندوق النقد الدولي إنه يحرمها من وسائل تمكنها من تفادي عاصفة مالية جديدة.
وتطرقت المناقشات إلى الانتخابات الفرنسية، التي تجري جولتها الأولى حاليًا، على خلفية الخوف من صعود مرشحين معارضين للمؤسسات الأوروبية، ومن بينهم مارين لوبان. وخرجت رئيسة صندوق النقد الدولي عن تحفظها المعهود، لتؤكد أن فوز رئيسة "الجبهة الوطنية" قد يؤدي إلى فوضى عارمة، وتفكيك الاتحاد الأوروبي، بينما قال شويبله إنه واثق تمامًا من تمسك الفرنسيين بالمبادئ الجمهورية، على الأقل في الدورة الثانية.
وتبدو الانتخابات العامة الألمانية، في سبتمبر / أيلول، مفتوحة على كل الاحتمالات، حيث عبر رئيس الدائرة الأوروبية في صندوق النقد، بول طومسن، الجمعة، عن قلقه قائلاً إن المخاطر كبيرة. وفي ظل المخاطر المتعددة على مستوى العالم، وعدم استعداد أي طرف للدخول في معارك خاسرة، خاصة مع موجة الإدارات الجديدة في أميركا وأوروبا، يرى مراقبون أن خلافات القوى الاقتصادية ستتجه إلى الحل، لكن بعد أن يدرس كل طرف خصمه جيدًا، ويمارس أقصى الضغوط من أجل حساب المكاسب والخسائر.