البنك المركزي الأميركي

 دفعت البنوك الأميركية والأوروبية غرامات قيمتها 345 مليار دولار بين عامي 2009 و2017، جنت معظمها الجهات الرقابية الأميركية وفقًا لإحصاءات نشرتها مؤسسة "بوسطن كونسلتنغ غروب" للاستشارات المالية، علماً بأن أرقام "بوسطن كونسلتنغ" لم تحصِ إلا الغرامات من 50 مليون دولار فما فوق، كما لم تشمل إلا أكبر 50 مصرفًا في العالم

ويرجَّح أن يرتفع رقم الغرامات إلى نحو 390 مليار دولار إذا شمل كل بنوك العالم التي تورطت في الأزمة المالية، وكل المبالغ مهما صغر شأنها، وأكدت المؤسسة في تقرير أنه منذ الأزمة المالية، وقعت على المصارف أعباء مخالفات وجزاءات وغرامات ومبالغ صلح بالتراضي لم تكن تخطر ببال، منها نحو 220 مليارًا على عاتق البنوك في الولايات المتحدة". وفي عام 2017 انخفض إجمالي الغرامات ليبلغ 22 مليار دولار فقط، لكن هذا الرقم يعد كبيرًا نسبيًا بعد مرور نحو 10 سنوات على اندلاع الأزمة.كانت الغرامات السنوية أميركيًا وأوروبيًا تدرجت خلال تلك السنوات كالآتي: 22 ملياراً في 2009، و8 مليارات في 2010، و23 ملياراً في 2011، و52 ملياراً في 2012، و73 مليارًا في 2013، و78 مليارًا في 2014، و25 مليارًا في 2015، و42 مليارًا في 2016، وأخيرًا 22 مليارًا في 2017

وويتوقع أن البنوك الأميركية دفعت معظم تلك المبالغ، لا سيما بين 2012 و2014. فعلى سبيل المثال، دفعت مجموعة "سيتي بنك" في منتصف عام 2014 نحو 7 مليارات دولار، بسبب دورها في أزمة الرهون العقارية. ولنفس السبب دفعت "غولدمان ساكس" 5 مليارات دولار في عام 2016. أما البنوك الأوروبية فوقع على عاتقها 125 مليار دولار، سددت معظمها لجهات الرقابة المالية الأميركية، منها 9 مليارات دولار تكبّدها بنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي لانتهاكه عقوبات الحظر المفروضة على إيران وكوبا والسودان، أما "دوتشيه بنك" الألماني فقد غُرِّم أكثر من 7 مليارات دولار، لدوره في أزمة الرهون العقارية الأميركية وبما أن الأزمة كانت كارثية، فإن السلطات الرقابية الأميركية واجهتها بإجراءات صارمة، وفرضت بين أعوام 2009 و2017 نحو 190 مليار دولار غرامات دخلت الخزانة العامة، والمستفيد الثاني كان مجموع المستهلكين المتضررين الذين حصلوا على تعويضات من المصارف قيمتها 133 مليار دولار. وهذا يشمل ملفات متعلقة بالأزمة العقارية وبالمنتجات المهيكلة والمسمومة التي سوّقتها المؤسسات المالية.

وظهرت السلطات الرقابية الأوروبية خجولة في هذا الملف، حيث إنها لم تفرض إلا 22 مليار دولار بين عامي 2009 و2017، أي ما يعادل أقل من 7% مما حصّلته السلطات الأميركية.وهناك مفارقة تكمن في أن الأزمة هي نتاج أميركي أولاً، لكن تداعياتها تعدت حدودها لتعم العالم، فإذا بالغرامات المحصلة معظمها في الولايات المتحدة دون غيرها، حيث انتظم العمل المصرفي والمالي الأميركي على نحو كبير وبدت الغرامات كأنها عوضت الأضرار. في المقابل، يختلف المشهد حول العالم، حيث ما زالت الأنظمة المصرفية تجر بعض ذيول الأزمة، والجهات الرقابية في كثير من دول العالم مستمرة في الكفاح التنظيمي من دون أن تستطيع تحصيل عُشر ما حصّلته السلطات الأميركية لها وللمستهلكين المتضررين في الولايات المتحدة.

وتفسر مصادر رقابية ضحالة المبالغ التي حصّلتها الجهات الرقابية الأوروبية مقارنةً مع الأميركية، بأن تلك الدول في الاتحاد الأوروبي كانت تعمل حتى عام 2014 بشكل محلي مشتت، وبعد ذلك ظهر البنك المركزي الأوروبي كمرجعية وحيدة لذلك وقطع الطريق على أي تهاون تظهره البنوك المركزية المحلية مع المصارف التي تحت رقابتها.والسؤال هو: هل أصبحت تلك الغرامات الباهظة من الماضي؟ يصعب الجواب لأن من نتائج الأزمة حصول تشديد غير مسبوق في اللوائح التنظيمية والرقابية، وهذا يتفاقم سنة بعد أخرى. فعلى المستوى العالمي هناك مئات القواعد والضوابط الجديدة التي تُنشر يوميًا ذات علاقة بالشفافية والحوكمة ودرء المخاطر، إضافة إلى مستجدات إجراءات حماية البيانات الشخصية في ظل التطور الرقمي الهائل والمهدد للخصوصيات. وباتت البنوك المركزية تعمل، ليس في رقابة لاحقة فحسب؛ بل تعتمد التحوط الاستباقي الذي يضع البنوك والمؤسسات المالية تحت ضغط متصاعد القوة، لا سيما لدفعها نحو الامتثال والقبول بالرقابة اللصيقة.

وتؤكد التقارير السنوية للمصارف أن هناك غرامات مستمرة تُفرض عليها لأسباب متصلة أولاً بالخوف الذي ينتاب البنوك المركزية وسلطات الرقابة على أسواق المال من تكرار أي سيناريو من سيناريوهات أزمة 2008، التي كانت الأعنف والأكثر ضررًا منذ الركود العظيم في عام 1929. ويحصل ذلك على الرغم من تشديد قواعد التدقيق والحوكمة والتحوط من المخاطر التي فرضتها البنوك المركزية على البنوك.

وتقول المصادر المصرفية الدولية إن الكلفة مزدوجة الآن، فإلى جانب الغرامات هناك فرض نسب كفاية "رساميل" عالية على نحو بات يهدد بنزول العوائد على الأصول وحقوق المساهمين. واعتبارًا من العام الجاري بدأ تطبيق المعيار المحاسبي الدولي التاسع لإعداد التقارير المالية والذي يفرض استقطاع مخصصات احترازية. وسيتطلب ذلك من البنوك -بموجب هذا المعيار- اتباع نهج تطلعي أكثر في رصد المخصصات من خلال الانتقال من نموذج محاسبة الخسائر المتكبَّدة إلى نموذج محاسبة الخسائر الائتمانية المتوقعة والمحتملة، حتى ولو كانت في نطاقات محدودة جداً.