بورصة لندن

أظهرت الكثير من المؤشرات والبيانات الاقتصادية، خلال الفترة الأخيرة، أن الاقتصاد البريطاني قوي في وجه المخاطر، سواء على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد، وتبدو تلك البيانات قوية في يد وعين السياسيين والقادة كدلالة على حسن قيادتهم لدفة الأمور، إلا أن المواطنين الطبيعيين لا يشعرون إلا بنيران التضخم والغلاء تلفح جيوبهم وتؤثر على الموازنات الصغيرة يومًا بعد يوم، ما يضفي جوًا عامًا من التشاؤم، خاصة مع تزامنه مع الارتباك الكبير البادي خلال مفاوضات "بريكست"، التي انطلقت عجلتها الإثنين.

وأظهر تقرير اقتصادي، نُشر الإثنين، تدهور النظرة المستقبلية للحالة المالية للأسر البريطانية خلال يونيو / حزيران بصورة أكبر، مع استمرار الضغوط المالية بسبب ارتفاع نفقات المعيشة. ووفق التقرير الصادر عن مؤسستي "أي أتش أس ماركيت" للدراسات الاقتصادية، "وإبسوس موري" للخدمات المعلوماتية، فإن المؤشر المالي للأسر البريطانية ارتفع خلال جزيران الماضي إلى 43.8 نقطة، مقابل 42.6 نقطة في مايو / أيار، بعد وضع المتغيرات الموسمية في الحسبان.

ويذكر أن قراءة المؤشر لأقل من 50 نقطة تشير إلى نظرة متشائمة تجاه الأوضاع المالية، في حين تشير قراءة أكثر من 50 نقطة إلى نظرة متفائلة. وفي الوقت نفسه، أظهرت بيانات المسح، منذ بداية العام الجاري، تزايد الضغوط المالية على الأسر البريطانية، مقارنة بها خلال الفترة نفسها من عامي 2015 و2016، كما تراجع مؤشر قياس النظرة المستقبلية للأوضاع المالية خلال عام مقبل من 47.1 نقطة، في أيار الماضي، إلى 45.8 نقطة خلال حزيران، ليصل المؤشر إلى أدنى مستوى له منذ ثلاثة شهور.وواصل مؤشر مدركات التضخم في الارتفاع خلال حزيران، حيث تتوقع الأسر زيادة حادة في نفقات المعيشة خلال الـ12 شهرًا المقبلة. وقال كبير خبراء الاقتصاد في مؤسسة "آي أتش أس ماركيت"، تيم مور، لوكالة الأنباء الألمانية، إن المسح الأخير يشير إلى أن نحو ثلث الأسر البريطانية فقط تتوقع إقدام بنك إنجلترا المركزي على رفع سعر الفائدة بنهاية عام 2017.

و في الوقت نفسه، تتوقع أكثر من نصف الأسر (58 %) ارتفاع أسعار الفائدة خلال فترة 12 شهرًا مقبلة، وهو ما يزيد عن ضعف النسبة التي كانت تتوقع ذلك في أعقاب قرار البنك خفض الفائدة في أغسطس / آب 2016، حين كانت النسبة آنذاك 28 % فقط من الأسر، وهذا التشاؤم المتزايد، المدعوم بقفزة هائلة في أسعار المستهلكين، لم تنجح بيانات إيجابية أخرى في محو آثاره، حيث أظهرت إحصاءات رسمية، نشرت الأربعاء، أن معدل البطالة في بريطانيا بقي على نسبة 4.6 %، وهو أدنى مستوى له منذ 42 عامًا. وأعلن مكتب الإحصاءات الوطنية أن ما مجمله 1.53 مليون شخص كانوا مسجلين كعاطلين عن العمل في نهاية أبريل / نيسان،  بتراجع 145 ألفًا مقارنة مع السنة الماضية، لكن معدل الأجور الأسبوعية تراجع بنسبة 0.6 % دون أن يشمل ذلك العلاوات مقارنة مع السنة الماضية. وارتفع معدل التضخم في بريطانيا في أيار، ليصل إلى أعلى مستوى منذ أربع سنوات، إذ بلغ 2.9 %، فيما يؤدي تراجع سعر الجنيه الإسترليني إلى رفع تكاليف الواردات.

ومن جانب آخر، بدأت القدرة الشرائية للبريطانيين تتراجع لأن الرواتب لم تعد تتبع وتيرة التضخم. وخلال الفترة بين فبراير / شباط ونيسان، لم ترتفع رواتب البريطانيين إلا بنسبة 2.1 %، على مدى سنة بما يشمل العلاوات، لكن التضخم تسارع في الفترة نفسها إلى حد أنه بلغ 2.7 % في نيسان، ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للبريطانيين. وقال سكوت بومان، المحلل لدى "كابيتال إيكونوميكس"، لوكالة الصحافة الفرنسية، إن الرواتب الفعلية تراجعت للمرة الأولى منذ سبتمبر / أيلول 2014، مضيفا أنه نظرًا للتضخم الذي ارتفع إلى 2.9 % في أيار، فإن الضغط على هذه الرواتب الفعلية زاد منذ ذلك الحين، وهذا يلقي بثقله بوضوح على استهلاك الأفراد على المدى القصير.

وارتفع التضخم جراء تراجع قيمة الجنيه الإسترليني، الذي سجل منذ قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، إثر الاستفتاء في 23 حزيران 2016، وتراجع قيمة العملة أدى إلى ارتفاع أسعار سلع مستوردة مثل بعض المواد الغذائية والألبسة والمنتجات الإلكترونية ويشكل هذا الضغط على القيمة الشرائية نبأ سيئًا لاقتصاد البلاد، الذي تركزت قوته السنة الماضية على الإنفاق القوي للأفراد، لكن الاستهلاك بدأ يعطي مؤشرات ضعف، وبالتالي فإن نمو الناتج الداخلي تباطأ في الفصل الأول من العام الجاري، إلى 0.2 %، مقارنة مع الفصل الرابع الماضي. ويتخوف الخبراء الاقتصاديون أيضًا من عدم الوضوح السياسي بعد الانتخابات التشريعية، التي جرت في الثامن من حزيران الجاري، وحرمت رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، من أغلبيتها المطلقة في مجلس العموم. وقال بن بريتيل، الخبير الاقتصادي في "هارغريفس لانسداون"، إن الاقتصاد البريطاني يواجه مزيجًا خطيرًا من الارتياب السياسي وتباطؤ النمو والتراجع الكبير للراتب الفعلي، لكن معدل العائدات الأسبوعية تراجع بنسبة 0.6 % من دون أن يشمل ذلك العلاوات، مقارنة مع السنة الماضية.

ومن جانبه، قال بول هولينغس وورث، المحلل الاقتصادي في مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" للاستشارات الاقتصادية، لوكالة الأنباء الألمانية، إن معدل التضخم الآن ما زال بعيدا عن مستوى الذروة له، وفي حين قد يزداد تقلص الدخل الحقيقي للأسر في بريطانيا خلال الشهور المقبلة، وهو ما سيحد من نمو الإنفاق خلال العام الجاري، فإن هذه الفترة ستكون على الأقل أقصر من تلك التي كانت في أعقاب التراجع الحاد لقيمة الجنيه الإسترليني، خلال عامي 2008 و2009. ومنذ أكثر من شهر، يؤكد الخبراء والمراقبون أن أخطر العوامل التي تهدد مستقبل الاقتصاد البريطاني في الوقت الحالي هو تقلص القدرة الشرائية والاستهلاكية للبريطانيين بشكل متزايد، في ظل ارتفاع قياسي للتضخم مع ثبات معدلات الأجور على حالها، أو زيادتها بما لا يتناسب مع ارتفاعات التضخم، مشيرين إلى أن "المحرك الاستهلاكي" هو أحد أبرز عوامل النمو الاقتصادي في بريطانيا، بالتوازي مع التصنيع والتصدير، إضافة إلى المكانة المالية للعاصمة لندن. ومع الغموض الذي يكتنف مستقبل بقاء لندن كأهم مركز مالي في أوروبا، عقب إتمام عملية الانفصال، خاصة مع التشدد الذي تبديه أغلب قوى أوروبا حاليًا، وأيضا الغموض حول إمكانية التوصل إلى اتفاقات تجارية تفضيلية مربحة للجانب البريطاني مستقبلاً مع الشركاء الأوروبيين، وما قد يتبعه من "تأثير ركودي" على القطاع الصناعي البريطاني، فإن القدرات الشرائية والاستهلاكية للبريطانيين تبقى وحدها عامود الاقتصاد الذي يجب أن لا يفرط فيه صناع السياسات المالية.

وعلى الصعيد القومي، تراجع معدل الاقتراض الحكومي البريطاني خلال السنة المالية الماضية إلى أدنى مستوى منذ آذار 2008، أي قبل الأزمة المالية العالمية، لكنه رغم ذلك جاء أعلى من التوقعات الرسمية السابقة. وأظهرت البيانات الصادرة عن هيئة الإحصاء الوطني البريطانية، في نهاية نيسان الماضي، أن صافي اقتراض القطاع العام، باستثناء البنوك، بلغ 52 مليار جنيه إسترليني خلال العام المالي المنتهي في آذار، بتراجع 20 مليار جنيه إسترليني عن السنة المالية الماضية. ويذكر أن مكتب مسؤولية الموازنة توقع انخفاضًا في الاقتراض بمقدار 20.3 مليار جنيه إسترليني خلال العام المالي الماضي، لكن تزايد الاقتراض في نهاية الفترة حال دون ذلك.

وخلال آذار 2017، ارتفع صافي الاقتراض من القطاع العام إلى 5.1 مليار جنيه إسترليني، بزيادة تبلغ 0.8 مليار جنيه إسترليني عن الفترة الموازية في 2016، مسجلاً أعلى مستوى منذ آذار 2015، وذلك مقارنة بتوقعات أشارت إلى 3.1 مليار جنيه إسترليني فقط وبذلك ارتفع إجمالي الدين الحكومي، باستثناء البنوك، إلى 86.6 % من الناتج المحلي الإجمالي، بزيادة قدرها ثلاث نقاط مئوية عن ما كان عليه في آذار 2016. وتأتي هذه البيانات والنتائج المتفاوتة المعايير والدلالات، في الوقت الذي شعرت فيه الحكومة البريطانية في مفاوضاتها الصعبة مع الاتحاد الأوروبي، بشأن الانفصال الفعلي، والذي يبدو أنه سيكون انفصالاً خشنا، ولن يسمح فيه بمكاسب أو تنازلات لبريطانيا،  وبينما كانت رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، تطمح إلى الحصول على غالبية برلمانية تدعم توجهاتها وقراراتها ومناورتها الصعبة خلال "بريكست"، لم تحصل إلا على خيبة أمل كبرى، لا تهدد مستقبلها السياسي وحده، ولكنها قد تهدد مستقبل بريطانيا الاقتصادي كله