تحقيق - محمدابراهيم
في الوقت الذي يتهاوى فيه الجنيه السوداني أمام الدولار الأميركي، فإن الحكومة تسعى بشتى الوسائل للسيطرة على الانفلات الذي لم يحدث من قبل في سعر العملات الحرة مقابل العملة الوطنية.
ومن التدابير التي تم اتخاذها توقيف كبار تجار العملة في الخرطوم وايداعهم سجن "كوبر" شديد التحصين. وفي خضم هذه الاجراءات برز الى السطح خبر تعرض مكتب محافظ بنك السودان السابق صابر محمد الحسن للسرقة.
قد يبدو الخبر طبيعيًا لأن الكثيرين يتعرضون للسرقة بحسب مضابط الشرطة اليومية، ولكن فان المفارقة تكمن في احتفاظ المسؤول الاقتصادي الرفيع السابق بعملات اجنبية تقرب من المليون جنيه في مكتبه، ويعتقد اقتصاديون ان من ابرز اسباب تراجع قيمة الجنيه السوداني وجود كتلة نقدية كبيرة من العملات الحرة خارج الاطر المصرفية.
تدابير واجراءات
وللحد من الانهيار المتسارع لقيمة الجنيه السوداني، اتخذت الحكومة عددًا من التدابير والاجراءات الاقتصادية التي تهدف من ورائها الى ضبط حركة النقد الاجنبي. وفي هذا الصدد ألقت السلطات السودانية القبض على كبار تجار العملة في محاولة للسيطرة على تراجع العملة الوطنية "الجنيه" أمام الدولار في السوق الموازي، وسط أنباء عن تحركات في البرلمان لعقد جلسة طارئة تخصص لبحث الوضع الإقتصادي .
ومنذ أبريل/نيسان الماضي بدأ الجنيه السوداني يتهاوى أمام العملات الأجنبية، حيث سجل اخيرا تراجعا غير مسبوق في السوق السوداء ليبلغ 16 جنيها مقابل الدولار ، وتحدد الحكومة سعر الدولار الرسمي بـ 6.25 جنيهات، بفارق يقترب من 150% بين السعر الرسمي والسوق السوداء. وطبقا لمتعاملين في السوق الموازي فإن السلطات الأمنية شنت بالفعل حملة واسعة طاردت خلالها التجار في السوق الموازي، ما أسفر عن توقيف 26 تاجرًا من أكبر تجار العملة وأودعتهم سجن كوبر الاتحادي في الخرطوم ، وفي العادة تراقب السلطات الامنية السوق الموازي عند ارتفاع اسعار الدولار، وكثيرا ما تقتاد عشرات التجار الذين يمارسون هذا النوع من التجارة، ليكون مصيرهم الحبس لبعض الوقت، ومن ثم يتم الافراج عنهم. وقال محافظ البنك المركزي عبد الرحمن حسن إن المتاجرين في العملة لابد أن يحاكموا بتهمة الخيانة العظمى.
وأفادت مصادر باتجاه نواب في البرلمان الدعوة لجلسة طارئة حول الأوضاع الإقتصادية في ظل تراجع العملة الوطنية وارتفاع الأسعار.
واشارت ذات المصادر إلى أن نوابا في البرلمان أبدوا عدم رضاهم من المعالجات الإقتصادية التي يديرها الطاقم الإقتصادي في الحكومة.
وتواجه العملة الوطنية تدهورا مريعا منذ انفصال جنوب السودان في 2011 وفقدان عائدات النفط، الى جانب العجز في الميزان التجاري وارتفاع التضخم .
وشكلت وزارة المالية أخيرا لجنة مشتركة من القطاعين الحكومي والخاص لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعاشية للمواطنين، باحتواء مشكلة ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية في مواجهة الجنيه والذي قفز الى مستويات قياسية .
صابر وعملات خارج الاطر المصرفية
في خضم هذه الاجراءات الاقتصادية المتسارعة التي تبذلها الحكومة للسيطرة على انفلات سوق العملات، فان اقتصاديين يؤكدون ان كتلة النقد الاجنبي المتداولة لاتعادل اكثر من 40% من الكتلة الموجودة في البلاد. ويشيرون الى ان البعض يحتفظ بكميات مقدرة من العملات الاجنبية بعيدا عن البنوك، وذلك تحسبا لتراجع قيمة الجنيه السوداني. ولايمكن اعتبار محافظ بنك السودان السابق صابر محمد الحسن من اولئك الذين يحتفظون بعملات حرة من اجل الاتجار او اتهامه بتحويل العملة الوطنية الي اجنبية حفاظا على امواله من التآكل في ظل التضخم وتراجع قيمة العملة الوطنية ،ولكن احتفاظه بمبالغ مقدرة من الدولار واليورو في مكتبه يفتح الباب امام التساؤلات حول اسباب اقدام قيادات الحزب الحاكم على ايداع عملات اجنبية في خزائن مكاتبهم ومنازلهم.
وقبل الاستفاضة لابد من الاشارة الي ان الشرطة في قسم "بري" تحقق في اكبر عملية سرقة تعرض لها مكتب محافظ بنك السودان السابق،صابر محمد الحسن. واشارت المصادر الى ان انباء وردت الى القسم تفيد بتعرض المكتب الذي يدير منه صابر محمد الحسن اعماله الخاصة عقب تركه منصب محافظ بنك السودان، الى عملية سرقة استولى من خلالها اللصوص علي مبالغ مالية تقترب من التسعمائة الف جنيه وشملت 27 الف يورو و30 الف دولار أميركي وعملات اجنبية ومحلية اخر.
تسع عملات اجنبية
ويعتبر القيادي في المؤتمر الوطني الدكتور قطبي المهدي اول من تعرض لسرقة كبرى خرجت اخبارها الى العلن،وقد احدثت تلك السرقة التي وقعت في العام 2011 ردود فعل كبيرة وسط استنكار واسع من امتلاك قيادي في الحزب الحاكم لتسع عملات حرة في منزله، وكان سعر الدولار في ذلك الوقت يمضي في ارتفاع مشابه لما يحدث حاليا، وشملت العملات التي تمت سرقتها من منزل قطبي المهدي (91) ألف جنيه سوداني، و(13.140) يورو ،(11.360) فرنك سويسري ،(645) ألف ليرة لبنانية ،(420) ألف ليرة سورية ،(20) ألف جنيه مصري ،(9) آلاف ريال سعودي ،(5) آلاف جنيه استرليني و(26) ألف دولار أميركي، وبلغت قيمة المسروقات بالعملة السوداني وقتها 300 الف جنيه.
وكان قطبي الذي كان يتولي منصب رئيس القطاع السياسي في المؤتمر الوطني قد كشف أمام محكمة جنايات بحري وسط برئاسة مولانا الصادق زكريا عز الدين إنّه بتاريخ البلاغ كان في الأراضي المقدسة لأداء شعيرة عمرة رمضان، وأشار إلى تلقيه إخطاراً عبر الهاتف بأن منزله تعرض للسرقة وعند عودته وجد أن دولاب مكتبه الخاص محطم تماماً وأن الجناة تمكنوا من سرقة (300) مليون جنيه سوداني وأن من بين المبالغ المسروقة عملات أجنبية مختلفة،وشغلت تلك القضية كما اشرنا الرأي العام وقتا طويلا وكان قطبي في مرمي نيران الاسهم التي انتاشته ودمغته بممارسة تجارة العملة رغم نفي الرجل لهذه التهمة.
ربيع عبدالعاطي والاحتيال
اما القصة التي حازت ايضا على اهتمام واسع رغم انها ليست ذات صلة بالنقد الاجنبي تتمثل في تعرض القيادي الاخر في المؤتمر الوطني الدكتور ربيع عبدالعاطي، الذي تم الاحتيال عليه من قبل عصابة تنزيل أموال مؤلفة من ثلاثة أجانب من جنسيات إفريقية نصبت عليه بدعوى استثمار أمواله وسلبت منه مبلغ 68 ألف جنيه ولاذت بالفرار، وذلك في العام الماضي، وأبلغ عبد العاطي قسم شرطة الدرجة الأولى بالعمارات بالواقعة وشرعت الشرطة في التحقيق في البلاغ، وألقت القبض على المتهمين في ضاحية "مايو" جنوب الخرطوم وبحوزتهم جزء من المبلغ المسروق. وقال عبد العاطي يومها إن ثلاثة أفارقة زاروه في مكتبه في الخرطوم وعرضوا عليه استثمار أمواله وأن لديهم بضاعة يودون تخليصها من السلطات الجمركية وأخذوا منه مبلغاً من المال ولاذوا بالفرار.
وأضاف عبد العاطي أن المتهمين استدلوا على رقم هاتفه من أحد الأشخاص واتصلوا به وحضروا إليه في مكتبه وصلوا معه الظهر والعصر، وقالوا له إنهم يعرفونه من جامعة افريقيا التي يدرس بها وأخذوا منه المبلغ بزعم استثماره.
ونفى عبد العاطي أن يكون المتهمون قد عرضوا عليه مضاعفة أمواله بالتنزيل، وقال ضاحكاً “هم ما عندهم قروش كيف يدوني”، وأكد ريبع أن الشرطة ألقت القبض على المتهمين واستعادت منهم جزءاً كبيراً من المبلغ وأنهم قالوا إنهم سيعيدون المبلغ كاملاً وأضاف: العملية “احتيال ليس إلا".
سرقات عادية
ما تعرض له القياديان في المؤتمر الوطني قطبي المهدي وصابر محمد الحسن من سرقة لعملات اجنبية كانا يحتفظان بها في منزل الاول ومكتب الثاني ، هل يحمل بين ثناياه فرضية احتفاظهما بعملات حرة بعيدا عن الاطر المصرفية للاتجار فيها ام للحفاظ على اموالهما بتحويلها لنقد اجنبي؟ ، للاجابة على هذا السؤال فان القيادي بالحزب الحاكم الدكتور ربيع عبدالعاطي يؤكد ان السرقات موجودة في اي مكان ، وهي لاتستثني احدًا ،وقال في حديث لـ"فلسطين اليوم" ان قيادات المؤتمر الوطني مثل غيرهم من المواطنين ليسوا محصنين ضد السرقة. ويعتبر التركيز علي السرقات التي يتعرضون اليها تنبع من واقع انهم شخصيات مشهورة ومعروفة، ويرى ان المبالغ التي تمت سرقتها من قطبي وصابر يمتلكها العشرات من المواطنين وليس في الامر مايثير التعجب ،الا ان الدكتور ربيع عبدالعاطي يقر بانه في ظل انخفاض قيمة الجنية السوداني فان الكثيرين يلجأون الى ادخار اموالهم عبر تحويلها الى عملات حرة حتى لا تفقد قيمتها ، نافيا ان تكون العملات الحرة البعيدة عن الاطر المصرفية في يد قيادات المؤتمر الوطني، معتبرا ان هذا اتهام تنقصة الدقة والامانة .
ضعف الصادر
واذا كان البعض يؤمن بنظرية وجود اكثر من 60% من الكتلة النقدية خارج الاطر المصرفية ويعتبرها سببا في تراجع قيمة الجنيه، فان المحلل الإقتصادي عصام الدين عبد الوهاب بوب، له تفسير اخر حيث يرجع ارتفاع سعر صرف العملات الصعبة خاصة الدولار الأميركي أمام الجنيه السوداني، لضعف الإنتاج والإنتاجية واستمرار الحروب والصراعات السياسية في البلاد. وطالب بوب بابتداع سياسات إقتصادية جديدة تتماشى مع الوضع الاقتصادي الراهن الذي تمر به البلاد، وتحد من وتيرة الواردات المتصاعدة وتمكن من زيادة حجم احتياطات البلاد من النقد الأجنبي. وشدد على تهيئة البيئة الملائمة للاستثمار وجذب تحويلات ومدخرات المغتربين، مع ضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير صارمة للحد من عمليات تهريب سلعتي الذهب والصمغ العربي إلى دول الجوار.