غزة– محمد حبيب
ينظِّم الفنان إياد الصباح معرضًا تصطف منحوتاته التي تُجسِّد قصة نزوج آلاف المواطنين الفلسطينيين من منطقة الشعف الواقعة شرق حي الشجاعية في غزة، وهو الحي الذي تعرَّض لمجزرة بشعة أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير، واختار له أنَّ يكون في الفضاء الرَحِب وبين الناس الذين تعرضوا للقصف والعدوان.
كما اختار الصباح اسم "تهالك" عنوانًا لمعرضه؛ فمشهد أبٌ يمشي متثاقلاً يحمل أشلائه ينتظر لحظة فارقة تكسر صمت المكان لتحيله إلى قطع متناثرة، ومشهد آخر للرجل الكبير وهو يسير محتضنًا ابنه الصغير، وأمٌ بملابس مترهلة وجسد متعب وقلب معذب تمسك يد طفلها محاولة منها حماية بصيص أملها في ساحة الموت، وعجوز تتكئ على عكازها وقد هجرت مرتين، وفتاة لا تدري أين المفر.
وأعاد مشهد الدمار الذي حلّ بحي الشجاعية بناء التاريخ إلى صورة زلزال ؟؟؟ والذي جعلها أثرًا من بعد عين وخروج عائلاتها محفوفة بالمهالك والصعاب وقلوبهم معلقة بأستار بيوتهم، جسّدته أنامل الفنان إياد صباح، المحاضر بكلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى، من خلال مجسّمات مصنوعة من مادة "الفيبر جلاس" والطين الأحمر.
وذكر الصباح: "فكرة الأعمال التركيبية هو اتجاه موجود في أوروبا منذ 20 عامًا؛ حيث بدأ بالخروج من قاعة المعارض إلى الفضاء العام ويتصل بشرائح المجتمع كافةً ويفهمه فئاته كافةً"، مضيفًا: "لأني متخصّص بالنحت فكرت في رؤية جديدة وفكر معاصر لاستخدم إمدادات الحياة لنقل الحالة المريرة التي عايشها أبناء شعبنا في العدوان الأخير على غزة والتي كان أصعبها حالة النزوح التي تعرض لها سكان حي الشجاعية".
وأوضح صباح بأنه استخدم مادة "الفيبر جلاس" في عمله، التي تعطي صلابة في الوقوف ولكن من داخلها هشّ، وتم طلاء المجسّمات بالطين لقربها من لون الإنسان وإلباسها شوالات وكان داخلها فارغًا؛ للدلالة على أنَّ الفلسطيني خرج من منزله قوي ولكنه محطم من داخله فقد تمّ استهدافه جسديًا ونفسيًا.
واستطرد: "اخترت جميع الفئات العمرية في عملي والتي تضمّ المسن والرجل والشاب والطفل والمرأة والمتعلم وغيرهم؛ لأنّ العدوان الصهيوني لم يفرِّق بين أحد منهم فطال الجميع".
وأشار إلى أنَّ فكرته استغرقت شهرًا حتى أصبحت جاهزة، وبجهد ذاتي، دون تمويل من أيّة جهة، مضيفًا: "فضّلت اختيار الميدان والمناطق المدمرة لعرض عملي بدلًا من الأماكن المغلقة"، مبيّنًا أنَّ نظرة الأمل للمستقبل كانت حاضرة في أعماله لعلها تكون أفضل وهو حلم أي شخص طبيعي.
وأكد على أنَّ الفن التشكيلي في فلسطين متطور ويضاهي العديد من الفنانين الدوليين، وأنَّ هناك العديد من المبدعين الفلسطينيين الذين عرضوا أعمالهم في متاحف مشهورة في أوروبا.
وعن تواصله مع وزارة الثقافة، أكد: "طرحت فكرتي وناقشت العمل مع وكيل الوزارة مصطفى الصواف وكان رده إيجابي ومتعاون ومنحتني الوزارة التصريح لتنظيم العمل ورسائل تطالب بتسهيله".
واستكمل: "وتم النقاش مع الوزارة حول اختيار مكان معين لتركيب العمل به وليصبح بشكل دائم كمفهوم نصب تذكاري لتوثيق الحالة، وأبدت الوزارة تحمُّسها للفكرة وسيتمّ اختيار المكان بالتنسيق معها".
من جهته، ذكر المدير العام للفنون في وزارة الثقافة، عاطف عسقول، إنَّ "هذا العمل أوضح دور الفن في نقل معاناة شعبنا الفلسطيني وجعلها حية ونابضة باستمرار؛ لاسيما في ظل الحالة التي يعيشها من تأخر بالإعمار وتهميش هذا الملف الهام وخاصةً وقت دخول فصل الشتاء".
وأضاف: " ليس غريب على الفنان الفلسطيني الذي يمثل فلسطين بالداخل والخارج أنَّ يخرج هذا العمل من وجدانه ليلامس قلوب ومشاعر الجميع وينتشر بين الناس بهذه الصورة".
وأوضح أن وزارة الثقافة رحّبت بالعمل الفني "متهالك"؛ لأنها شعرت بأهمية العمل في توثيق فترة ومرحلة صعبة عاشتها الشعب الفلسطيني، لاسيما حالة النزوح لأهالي حي الشجاعية خاصة وأنَّ العمل أقيم وسط الركام.
وأردف: "دائمًا الشعوب التي تقع تحت الظلم والاضطهاد والاحتلال يتفجر لديها طاقات هائلة في المجالات الإبداعية كافةً وفي مسيرة الفن التشكيلي ظهرت أسماء كبيرة تركت بصمة في الفن العالمي والعربي، وهذه الأسماء لا زلنا في فلسطين نحتفظ بهم في ذاكرتنا وبألواحهم وأعمالهم التي أصبحت لها قيمة كبيرة بعد وفاتهم والعديد من الفنانين يشاركون في معارض دولية وإقامات في الدول العربية والأجنبية ويتواصلون مع نظرائهم العرب والأجانب".
وأكد عسقول أنَّ الوزارة باستمرار تدعم كل فنان مبدع ولكن من يحب إظهار فنه بطريقة حضارية مشرقة، وتدعم كثير من المعارض وتشجع على أنَّ يكون هناك حركة تشكيلية واحدة ونابعة من المجتمع الفلسطيني".
وتابع: "الوزارة تتواصل بشكل كبير مع الفنانين الفلسطينيين ومن بينهم الأستاذ إياد صباح الذي نسق مع الوزارة للتواصل مع الفنانين العرب في شهر 12 العام 2012 تحت مسمى تواصل وتمّ استقدام مجموعه كبيرة من الفنانين العرب شاركوا مع فنانين فلسطينيين في رسم لوحات فنية، وتم تنظيم فعّالية في بيت الباشا".
مكان واحد فقط هو الذي يعلمنا بأنَّ خلف كل معاناة نعيشها يخرج علينا مبدعوه بفنونهم وقدراتهم؛ أنه "غزة" هذا المكان الذي يطبق النظرية السيكولوجية في التحدي ليصنع من المستحيل واقعًا جديًا، فقد عشقت العيون التي بها نظرت منبهرةً من جمال ما صنعت أيدي أبناء الوطن، فهم يتحمّلون الصعاب ويصنعون من اللاشيء جمال يقدمون به إبداعاتهم فبحر الصعاب دومًا لا يخلو من فكر وصناعة جديدة.