باريس ـ مارينا منصف
اعتلى أربعة سينمائيين عرب خشبة الحفل الختامي لدورات مهرجان "كان" مكرَّمين كفائزين بجوائز كبيرة في تلك الدورات، وهم: الجزائري محمد الأخضر حامينا، اللبناني مارون بغدادي، المصري يوسف شاهين وأخيرًا الفلسطيني إيليا سليمان.
ونال سليمان وزميله الراحل بغدادي جائزتي لجان التحكيم، عن فيلميهما "خارج الحياة" لبغدادي، و"يد إلهية" لسليمان، وحقق حامينا وشاهين الفوز الأكبر: سعفة ذهبية لكل منهما. سعفة حامينا كانت العام 1975 لفيلمه "وقائع سنوات الجمر" وسعفة شاهين عن مجمل أعماله وسميت سعفة الستينية الذهبية في تكريم لم ينله قبله سوى جان رينوار وإنغمار برغمان.
ومنذ جائزة إيليا سليمان ونحن ننتظر الاسم الخامس. أثناء ذلك كان ثمة حضور عربي متكرر ومن نوع أدنى: ممثلون عرب في أفلام غير عربية، مخرج تونسي لفيلم إباحي فرنسي، أعضاء نادرون في لجان تحكيم، وإشاعات وتكهنات سرعان ما تختفي غير مخلفة أثرًا.
ولكن، في الدورة الأخيرة، من حيث لا يدري أحد، وبفيلم تحريك لا تزيد مدة عرضه عن ربع الساعة، وحبكة لا تتعدى كونها حكاية مراهق لبناني يتجول في مدينة بيروت في يوم ضجر كئيب، وبأسلوب فني يدنو كثيرًا، لغة وألوانًا، من فيلم "فالس مع بشير"، حقق ابن الثلاثين اللبناني إيلي داغر، تلك المعجزة الصغيرة التي كنا ننتظرها منذ سنوات: اعتلى مسرح الحفل الختامي ليتسلم سعفة ذهبية عن فيلمه القصير "أمواج 88" ويقفز الرقم إلى خمسة في انتظار الأسماء التالية في دورات مقبلة.
والحقيقة أن هذا الجانب الإيجابي في دورة "كان" الأخيرة، بالنسبة إلى اللبنانيين خصوصًا والعرب عمومًا، لم يستطع على أية حال أن يخفي مرارة عربية عامة تجاه دورة عجزت لجنة اختيار الأفلام لشتى تظاهراتها، أن تعثر حقًا على أفلام عربية تشركها من بين عشرات شرائط أُرسلت إليها. مرارة زاد من حدتها واستلابها مشاهدة الفيلمين العربيين الطويلين الوحيدين اللذين عرضا: المغربي "الزين اللي فيك" من إخراج نبيل عيوش – في أسبوعي المخرجين – والفلسطيني "ديغرادي" للأخوين ناصر – في "أسبوع النقاد".
أمام عرض هذين الفيلمين كان من المنطقي التساؤل: هل كانت هناك، مثلًا، مبررات سينمائية حقيقية حالت دون إدراج فيلم مي المصري "3000 ليلة" في إحدى تظاهرات المهرجان؟ طبعًا لن نبتعد هنا أكثر في طرح تساؤلاتنا... بالنظر إلى أن غايتنا هنا التوقف عند الجوائز التي منحتها لجنة التحكيم برئاسة السينمائيين الأميركيين جويل وإيثان كون، أو بالأحرى عند الأفلام الكبيرة التي كان متوقعًا لها أن تفوز، استنادًا بالتحديد إلى "سينمائية" الأخوين كون، التي تمكن المبادرة إلى القول أنها قد ضحّي بها لمصلحة نوع من البعد الاجتماعي ربما أرادت لجنة التحكيم توجيه التحية إليه على هذا الشكل، إذ تستنكف أفلام رئيسيها عن الخوض فيه عادة.
يذكرنا بإعلان تلفزيوني فرنسي قديم تدخل فيه زوجة وزوجها إلى محل لبيع الأدوات الكهربائية سائلين عن أفضل جهاز تلفزيوني يشتريانه. يقوم البائع بشرح مزايا كل جهاز وبتوجيه النصيحة في ثرثرة لا تكاد تنتهي. فإذا بالزوجة تقاطعه سائلة إياه: وأنت... ما هو جهاز التلفزيون الذي تملكه في منزلك؟... بكلمات أخرى، أمام الجوائز - الأربع الرئيسية على الأقل - التي منحها الأخوان كون ولجنتهما كان الحري بالناس أن يسألوهما:... وأنتما، هل كان من شأنكما، حقًا، أن تحققا أفلامًا مثل "ديبان" الفائز بالسعفة الذهبية، أو تختارا الفرنسية إيمانويل بيركو لأفضل ممثلة – مناصفة مع الأميركية الرائعة روني مارا - بدلًا من الأميركية الرائعة الأخرى كيت بلانشيت في فيلم من أفلامكما، أو حتى لو خيّرتما بين الفرنسي فنسان لاندون في الفيلم البارد والأحادي السمات "قانون السوق"، وبين الأداء الرائع الذي قدمه مايكل كين في "شباب" أو مايكل فاسبندر في "ماكبث" هل كنتم ستختاران الفرنسي حقًا؟
من الصعب طبعًا التكهن بالردّ الذي كان سيعطيه رئيسا اللجنة، لكن تحليلًا معمقًا لسينماهما وأفلامهما الرائعة من شأنه أن يقول كم أن الرئيسين كانا مهذبين تجاه البلد المضيف... مهذبين إلى درجة منح نصف الجوائز إلى سينمائييه والبقية إلى منتجيه الذين مولوا بقية ما تبقى من أفلام. فهل نضيف إلى هذا إعطاءهما جائزة الإخراج للتايواني المميز عادة هو هسياو هسيين، عن "القاتلة" الذي يمكن ببساطة اعتباره أقل أفلامه قوة وأكثرها إثارة للملل حتى اليوم، على رغم أنه فيلم حركة وسيف وصراعات غير قابلة للتصديق؟
مهما يكن، فإن هذا كله يقودنا إلى الحديث عن هذه الدورة في شكل عام، حتى ولو أنَّ الحس الوطني كان يجدر به أن يدعونا إلى امتداحها طالما أنها أعطت وطننا الصغير السعفة الذهبية الأولى في تاريخه. سنترك هذه الإيجابية جانبًا لنسأل: ترى ألم يكن من المفترض بمهرجان له قوة "كان" وسمعته وهيبته بصفته الأهم والأكبر في العالم، أن يقدم أفضل ما أنتجته سينما هذا العالم خلال العام الذي انقضى؟ فهل ما عرضه المهرجان كان الأفضل عالميًا؟ أعتقد أن مهرجاني البندقية وتورنتو المقبلين سيعطياننا الجواب حتى وإن كان في وسعنا القول أنه إذا كانت معروضات "كان" أعطتنا أفضل ما في السينما فعلى السينما السلام، إذ باستثناء دزينة أو دزينة ونصف من أفلام شوهدت في التظاهرات كافة، لم يكن هناك ما يشي بأن سينما العالم في خير، بالرغم من أنَّ منظمي "كان" يقولون أنهم إنما اختاروا ما عرضوه من بين قرابة ألفي فيلم أرسلت إليهم!
لكن الأدهى من هذا أن من بين الدزينة والنصف من الأفلام التي نعتبرها جيدة، وكذلك فعل معظم نقاد العالم وكشف تصفيق الجمهور بعد كل عرض، لم نجد في لائحة الفائزين في نهاية الأمر سوى اسمين لفيلمين هما "الكركند" لليوناني يورغوس لانتيموس (جائزة السيناريو عن استحقاق مشروع لفيلم الخيال العلمي الذي هو الثالث لمخرجه)، والمجري "ابن شاوول" وهو الأول للمجري لازلو نيميث، من دون أن ننسى هنا أن الفيلمين من إنتاج – كلي أو جزئي – فرنسي. والحقيقة أن هذين الفيلمين على اختلاف حساسياتهما، وأجوائهما (حيث إن "ابن شاوول" يعود إلى حكاية المحرقة اليهودية إنما من طريق عمل روائي عن واحد من اليهود المعتقلين الذين يعطون امتيازات لشهور مقابل قيامهم بقتل أبناء جلدتهم في غرف الغاز ثم إحراقهم للتخلص من الجثث بسرعة. هذا الرجل هنا يختار ضحية يفترض أنه كان يمكنه أن يكون ابنه، فيرغب في أن يؤمن له، على الضد من القواعد المعمول بها، جنازة دينية...)، كانا منذ عرضهما منافسين جديين للحصول على السعفة، على الأقل حتى ظهور ثلاثة أو أربعة أفلام كبيرة أخرى باتت هي المرشحة الجدية، وإلى حد ما البدهية: "شباب" لباولو سورنتينو الذي كانت كل الأصابع تشير إليه هو الذي كان خرج من "المولد بلا حمّص" قبل عامين حين عرض في مسابقة "كان" فيلمه الرائع "الجمال العظيم" فبهر كل "الكانيّين"... باستثناء لجنة التحكيم. وهكذا كانت حاله هذه المرة من جديد ما يدفع إلى التساؤل جديًا بشأن "سينمائية" اختيارات لجنة يعتبر رئيساها من أعظم سينمائيي العالم اليوم.
وهذا التساؤل السينمائي ينطبق أيضًا على غياب فيلم "أمي" لناني موريتي عن الجوائز وهو الفيلم السينمائي بامتياز، بمعنى أنه فيلم سينمائي عن السينما استخدم فيه المخرج الإيطالي الكبير شخصية سينمائية أنثى ليصور من خلالها أزمة وجودية وحياتية وإبداعية عاشها هو إلى حد ما، تخللها انفصالها عن صديقها واكتشافها إدمان ابنتها ومتابعتها موت أمها في المستشفى، وسط صعوبات إنجاز فيلم تصوره ونزوات النجم الأميركي الذي جيء به لبطولة الفيلم. في الحقيقة، وعلى رغم بعض التحفظات الشكلية، كنا هنا أمام عودة كبيرة لناني موريتي إلى أفلام الذات وتصفية الحساب مع هذيان الذات وهستيريتها... غير أن لجنة التحكيم لم تر هذا. فضلت ألا ترى "السينمائية" المطلقة التي وسمت فيلمًا ثالثًا كان أيضًا مرجحًا للسعفة أكثر من أي فيلم آخر.
هذا الفيلم هو طبعًا "كارول" الذي صوّر فيه مخرجه المبدع تود هاينس نيويورك وبعض أميركا المحافظتين عند بداية سنوات الخمسين في اقتباس، رائع بصريًا على عادة سينماه، ولاسيما في "بعيدًا من الجنة" (2002) من تمثيل الرائعة جوليان مور – أفضل ممثلة العام الفائت - عن رواية "ثمن الملح" لباتريسيا هايسميث. الحقيقة أن هذا الفيلم أتى يحمل كل العناصر السينمائية البصرية والفكرية التي تؤهله للتميّز، بخاصة أداء بطلتيه. فإذا بواحدة منهما فقط تنال نصف جائزة أفضل ممثلة – روني مارا شراكة مع الفرنسية بيركو - فيما لم يلفت أداء كيت بلانشيت نظر السادة المحكمين. فضلوا عليها الفرنسية الخالصة بيركو... وهذا حقهم على أية حال. فنحن نقول ونعيد دائمًا أن الجوائز هي في مثل هذه المسابقات، مسألة شخصية. ليست استفتاءات شعبية ولا هي اقتراعات بالتصويت العام.
كذلك ليست لجنة التحكيم لجنة نقاد ومؤرخين للفن السابع، وهو أمر قاله رئيسا اللجنة حين قالا بوضوح: نحن سينمائيون ولسنا نقادًا! فهل يمكننا أن نرى في هذا التأكيد شيئًا آخر غير الاعتذار المبطن عن تنحية الذكاء والتحليل والعمق والحس السليم جانبًا؟ ولكن لاستبدالها بماذا؟ بمبادلة البلد المضيف التحية بمثلها؟ لن يصل بنا المكر إلى مثل هذا الاستنتاج، لكن من حقنا أن نتساءل، الآن وأخيرًا بصدد السعفة الذهبية، ما الذي رآه السينمائيان جويل إيتان كون حقًا في فيلم "ديبان"، للفرنسي جاك أوديار كي يمنحاه السعفة الذهبية معتبرينه أفضل فيلم عرض في "كان" هذا العام ثم بالتالي "أفضل ما أنتجته السينما العالمية"؟ حين عرض الفيلم في أحد آخر أيام المهرجان، لم يتوقف كثر عنده طويلًا. فهو من نوع تلك الأفلام التي يشعر المشاهد بأنه رآها مرات عدة من قبل، حتى وإن تبدلت الأماكن والظروف. فـ"البطل" هذه المرة مقاتل من التاميل السيرلانكيين يقرر وقد وضعت حرب الاستقلال أوزارها وانهزمت جماعته، أن يضع السلاح ويسلك سبيل المنفى. إنه وحده ولا يحق له الحصول على اللجوء بهذه الصفة فيركّب عائلة من امرأة لا يعرفها وطفلة لا يعرفانها أيضًا، ليهاجر وسط هذه العائلة المزيفة إلى فرنسا حيث يعمل حارس بناية في الضواحي.
لقد أضحى رجلًا مسالمًا يعيش مع عائلة تريد العيش بسلام. وهو لا يدنو من المرأة والطفلة إلا بالتدريج وبمقدار ما تبتعد حربه الداخلية. فماذا يحدث هنا؟ يعود إلى الحرب، ولكن في الضاحية الباريسية... نوع الحرب التي رأيناها عشرات المرات في أفلام تبدأ ب "الكراهية" الذي حققه الفرنسي ماثيو كازافتس ولا تنتهي بشرائط المغتربين المغاربة في فرنسا.
أفلام الكراهية وعصابات بائعي المواد المخدرة وحروب العصابات وظلم رجال الشرطة للمهاجرين... أما نحن فنشعر ببرودة تامة إزاء عدم رغبة "بطلنا" في التدخل حتى اللحظة الأخيرة - التي لا شك في أن سينمائيًا مثل كلنت إيستوود كان سيضحك كثيرًا لو رآها بعدما استخدمها في فيلمه "غران تورينو" - التي يحدث فيها ما هو متوقع بالطبع: ينفجر غضب المقاتل السابق ويستخدم تقنيات حرب العصابات التي يتقنها، ولكن في أدغال الضواحي الفرنسية، فينتصر ليستعيد الهدوء والسلام بعد هجرة جديدة هذه المرة إلى لندن...
هذا الفيلم الذي كان في مقدور أي متفرج أن يتوقع أحداثه لحظة بلحظة، من دون أية مفاجآت، كان هو ما فضله صاحبا "بارتون فينك" و "عزم أكيد" و "هذا ليس وطنًا للعجائز"، على الأفلام المميزة أو القليلة، التي شهدتها دورة من مهرجان "كان" لا شك ستدخل تاريخ المهرجان بصفتها واحدة من أضعف دوراته عروضًا... ولكن نتائج أيضًا، حتى وإن كانت ستدخل بالنسبة إلينا نحن اللبنانيين والعرب بصفتها الدورة التي أعادت سينمانا من جديد إلى واجهة الأحداث العالمية وتوجت من عندنا شابًا سينمائيًا لم يكن قد سمع أحد باسمه قبل أيام، وبالكاد كان أحد يعرف شيئًا عن بطله المراهق عمر الذي خرج ذات يوم ضجرًا من بيته ليتجول في بيروت، فإذا به يصل إلى "كان" على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط ويعود بسعفة ذهبية لا شك يحلم بها أي سينمائي في العالم.