منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"

في ضوء إعلان منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" إدراج لبنان على لائحة التراث العالمي غير المادي ممثلًا في الشعر العامي أو "الزجل"، أقام "مركز التراث اللبناني" في "الجامعة اللبنانية - الأميركية"، لقاء تناول "الزجل" من جوانب مختلفة فيما يشبه تقنينه، وإعلان أسس له تراكمت عبر الخبرات، واغتنت أخيرًا بدراسات أكاديمية تجعله صنفا من أصناف الشعر، بموازينه وصوره وموسيقاه ولغته.

تحدث رئيس المركز الشاعر هنري زغيب عن سنوات طويلة تناهز اثنتي عشرة سنة، من التحضير ووضع الدراسات التي قدمت إلى "يونسكو" قبل أن يوافق عليها، ويتبنى "الزجل" واحدًا من تراث البشرية الثقافي غير المادي، مقترحًا تبني الجامعات في لبنان إدخال الزجل اللبناني إلى المنهج الأكاديمي بعد أن صار تراثًا عالميًا .

أكثر ما يعرف "الزجل" بالمناظرات الارتجالية التي يصطف فيها عدد من الشعراء، "أربعة غالبًا"، يتناظرون فيها على موضوعات مختلفة مستخدمين فيها المدح والفخر والذم فيما يشبه المبارزة الكلامية، على وقع الدف، وفي حضور شعبي مؤيد لهذا أو ذاك من المتناظرين، وعادة ما تنتهي المناظرة المشحونة بعروض شعرية تريح الحضور وذلك بالعودة إلى الغزل.

كما مورس "الزجل" كالشعر، إلقاء وكتابة ونظمًا وكتبًا، وبرزت فيه أصناف وتيارات، مع إصرار لشعراء "الزجل" على كونه موزونًا، كما الشعر الفصيح .

عالج الدكتور عدنان حيدر بحور "الزجل" وموسيقاه، ووضع عنه كتابا هو الأول من نوعه بالانجليزية سيصدر عن جامعة "كمبريدج"، من 440 صفحة .

وعرّف الشعر الزجلي بأنه "فن كسائر فنون الشعر، يتألف من كلام موزون مقفى، ومغنى، وينبع من موهبة هي وليدة الإلهام والمشاعر، يعبر عنه الشعراء بلغة أهل بيئتهم، ومجتمعهم ووطنهم .

وأضاف: الزجل نظم كلامي على إيقاع موسيقي لغته رقيقة وشفافة، ويجري في نظمه على اللحن والقياس، والإيقاع، ولا يخضع لضوابط الصرف والنحو، وإن تطابقت بعض أوزانه أو تشابهت مع بعض الشعر الفصيح" .

وتحدث حيدر عن الدراسة التي أعدّها معتمدا على خمسين تسجيلًا لأنواع الزجل المختلفة، ولشعراء عدة ولتراتيل مارونية، وتفعيل هذه الأنواع اعتمد على تفعيل هذه الأوزان الشعرية .

وأكد "كنت أضع الوزن الشعري تحت الوزن الموسيقي لأرى المطابقة والمفارقة بين الاثنين، ثم أضع وصفًا كاملًا لكل بحر والنتيجة لهذه الدراسة هي بديل جذري للنظرة التقليدية لتفعيل الزجل، وهذا البديل يتناول العلاقة بعدد المقاطع في البيت الشعري، والنبر اللغوي، وأين يقع النبر الموسيقي" .

في تحليل دقيق لموسيقى الكلمات، يتبين أن شعراء الزجل يرندحون أبياتهم وفق أسلوبين مختلفين، أولهما منفلت من الإيقاع، والثاني منضبط بالإيقاع.

ويذكر حيدر أن الأسلوبين ينقسمان وفق معادلة "نثر النغمات ونظم النغمات" .

ورأى أنَّ النثر الموسيقي يعتمد على أداء الصوت من دون الرجوع إلى نظام ملزم للنوتة الموسيقية، ونظم النغمات يتبع نوتة تقليدية لا نظامًا منضبطًا .

ويظهر هذا التحليل الموسيقي لأوزان الزجل، أن الأوزان المستخدمة في النثر هي في غالبها أنواع تتطلب حججًا معقدة، كما في الحوارات، أو أقوالًا رصينة في المناسبات الاجتماعية أو السياسية، كما في أنواع الشعر التقليدي كالغزل والهجاء والمدح والفخر، وركز على أن "الهدف منها إجمالًا إصابة المعنى" .

وتحدث عن "القرادي"، وهو من نوع نظم النغمات، موجود بكل لغات العالم، وهو البحر الأم، ونسب إلى ابن خلدون أنَّ "العرب استخدموا قوالب كلامية والقرادي هو قالب كلامي" .

وقد وضع الشاعر جوزيف أبوضاهر أحد خبراء "الزجل" اللبناني موسوعات عن "الزجل"، واحدة من ستة أجزاء، وموسوعة الزجل الاغترابي في مئة سنة، وعنده 51 مؤلفًا في "الزجل" .

تناول أبوضاهر صيغة الغزل في "الزجل"، بدءًا من دور الأم التي وصفها بأنها "هي البداية"، وقال إن "الزجل بدأ مع المرأة الأم، وهي غنت الزجل لترفق الأحلام بغفوة الأطفال، مثل: "يالله ينام ابني/ يالله يجيه النوم/ يالله يحب الصلا/ يالله يحب الصوم/ يالله تجيه العوافي/ كل يوم بيوم . .".

وعندما بدأ الطفل يناغي ويدب على الأرض، هدهدته الأم بيديها، وأكملت بالزجل: "دادي يلا يمشي/ دادي أد (بحجم) الكمشة/ دادي ياما شالله/ دادي يحرسك الله".

ويذكر أبوضاهر أنَّ الأم راحت تقيس ابنها كلما كبر، شبرًا شبرًا، وتحكي له حكاياتها، وصار الزجل زلغوطة (زغرودة) للعريس والعروس: "آويها يا عروس زينة الأقمار/ آويها ياما رميتي قلوب الحاسدين بنار/ آويها كلك منقط عسل مجني من الأزهار/ آويها والخصر من رقتو ما يحمل الزنار".

وعدد أبوضاهر حالات تطور الزجل، إن "في سفر رفيق العمر فغنت له الحنين، أو في استقبال العائدين من المشاوير البعيدة، أو الذاهبين إلى المقلب الثاني من الحياة، إذ تحضر الندابات يعطين ذكر الغالي قيمة.

ويلفت إلى أنَّ الزجالين "أخذوا الزجل عن أمهاتهن تراتيل وحربًا ورجولة وتحديًا، في ساحات الأعياد والمناسبات الكبيرة، وكانت الصبايا تحضرن بأحلى زينتهن، فعرف الزجل أحلى غزل، وكان في هذه المرحلة تلميح، وفيه شوق أكبر" .

وواصل أبوضاهر عرضه في إطلالة القرن العشرين، إذ بدأ الزجل يفتش عن ثياب جديدة، مع أدباء وكتاب وشعراء أسسوا لنهضة ثقافية في لبنان، والعالم العربي، فعن الشيخ ناصيف اليازجي: "يا طير صوب بلادهن خدني معك/ جسمي أخف من النسيم شو بيمنعك/ قلي بتمنعني دموعك بالهوى/ لكي (ربما) تبلل جانحي من مدمعك" .

وعن أمين الريحاني كتب زجليات غنائية وترجمها إلى الانجليزية من أغنية مرمر زماني: "شوفو الحليوة حاملة الشمسية/ بيضا وظريفة والعيون عسلية/ وقلك يا أمي إن ما أخدتيلي هيي/ لأعمل عمايل ما عملها عنتر".

وعن جبران خليل جبران، كتب مواويل ترجمت للإنجليزية منها: "لاطلع لراس الجبل واشرف على الوادي/ وبقول يا مرحبا نسم هوا بلادي/ بالله يطوف النهر ويغرق الوادي/ لأعمل زنودي جسر تقطعك ليا" .

عن مرحلة التجديد، قال إنها بدأت مع رشيد بك نخلة الذي توج أميرًا للزجل اللبناني: "إن بكيتي الكون من أجلك بكي/ وإن ضحكتي أنهز عرش المملكة/ وكلشي ربي خلق لطف وجمال/ أعطى البشر قيراط والبقوة (البقية) لكِ".

وفي لغة التولّه والغيرة والشك سجل لعبدالله غانم، وكان من أوائل المجددين في الأوزان والصياغة: "دقت على صدري وقالتلي افتحو/ تشوف قلبي إن كان بعدو بمطرحو/ وأن صح ظني وعملتو لك حجاب/ بسترجعو وما بعود خليه بمطرحو".

من الذين تأثروا بالمعلم عبدالله ميشال طراد: "لو ملكوني هالدني شو بريدها/ ما ببيعها بنسرة (قطعة رقيقة) ظفر من إصبعك/ عميت عيوني وريت الله يزيدها/ شو إلي بعينين مش عم اقشعك".

وعن أسعد سابا الذي كان الغزل مصدر وحي لأكثر من ألفي أغنية له، قدم نموذجا، للرحابنة لحنا وفيروز غناء: "زرعنا طريقك ورد يضحك للدلال/ عنا جمالك ما ارتسم متلو جمال/ وعملتنا قصة غرامك والخيال/ ورميتنا من بعد ما شميتنا" .

وقدم عن عاصي ومنصور الرحباني أبيات قليلة: "شايف البحر شو كبير/ كبر البحر بحبك/ شايف السما شو بعيدي/ بعد السما بحبك/ كبر البحر وبعد السما/ بحبك يا حبيبي . . يا حبيبي" .

وفي زمنهم، قال أبوضاهر إن غابي حداد عرف بشاعر "ندى" من شدة عذابه معها: "لا عاد بدي صبحا ولا مسيا/ ولا شوف وجهها ولا بحلمي ناجيا/ مستقبلي ضايع بوادي ماضيا/ يا ما حلفت وقلت شو بدي فيا/ واحترت تاني يوم كيف براضيا/ هي حرقة الشاعر بقلبو مخبيا/ بيضيعا وبيجن حتى يلاقيا" .

ثم قدم أبياتًا من العتابا، قبل أن يعطي الكلام للشاعر الزجلي موسى زغيب الذي لفت إلى أن عشرات آلاف أبيات الزجل فقدت لأنه لم يتم تدوينها، وقدم تلاوات من أنواع الزجل وفقًا لموسيقاه كالمعنَى والقرادي، والشروقي وأبو الزلف وسواها .

وجاء في قرار "يونسكو" أنَّ "الزجل" نوع من الشعر الشعبي اللبناني المُلْقى أَداء أَو المغنى تأْدية، فرديًا أو جماعيًا، في مناسبات اجتماعية أَو عائلية، وفي مبارزات شعرية مباشرة أَمام الجمهور، تتجلى فيها جمالات لبنان وما فيه من قيم في السماح والحوار بين الأَديان والفئات اللبنانية والحق في الاختلاف" .

وورد في ختام القرار أنَّ "الزجل اللبناني منتشر على جميع الأَراضي اللبنانية، ويسهم في تنصيع الهوية الثقافية واستدامتها بين صفوف الشعب اللبناني"، وبهذه الصفة أَدخلته المنظمة إِلى "التراث الحي في دول الأَبيض المتوسط" .