لندن ـ ماريا طبراني
كانت مدينة "تدمر" التي تبلغ من العمر 2000 عامًا، واحدة من أهم مناطق الجذب السياحي الأكثر شعبية في سورية. فعندما تسير عبر الرواق الروماني الكبير لمعبد "بل" عند غروب الشمس حيث تتحول الحجارة إلى اللونين الذهبي والوردي في ضوء الصحراء، تشعر بتواصل عميق عبر القرون.
وقد شعر العالم بالذعرعندما اقتحم "داعش" تدمر ودمر أجزاء من آثارها القديمة، ثم جاءت المفاجأة في ساحة "طرفلغار"، حيث وجدت نسخة طبق الأصل مطبوعة طباعة ثلاثية الأبعاد من قوس النصر في معبد بل والذي حوله "داعش" إلى ركام، ومع تقدم "داعش" في المدينة ، قام معهد الآثار الرقمية (IDA) مع هيئة "اليونسكو" بتوزيع كاميرا ثلاثية الأبعاد للمتطوعين في تدمر، وكانوا على علم بأنها نفس الطريقة التي اتبعتها حركة "طالبان" لنسف تماثيل "بوذا" التي تعود للقرن السادس في "باميان" في أفغانستان عام 2001، وقام "داعش" بالمثل بتدمير الكثير من تراث تدمر القديم.
وأتاحت تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد إعادة بناء نسخة طبق الأصل من الهياكل الحضرية للموصل العراقية وكاتماندو عاصمة نيبال، ولم تتح التكنولوجيا الجديدة إعادة الآثار فقط ولكن إعادة مدن بأكملها من تحت الأنقاض، وتثير هذه التكنولوجيا العديد من التساؤلات مثل ماذا يعني نسخ الآثا القديمة؟ وهل سيكون النسخ من الأصل؟ وهل الأصالة أقل أهمية من رمزية الأشخاص الذين نجو من الموت والدمار، وهناك تاريخ طويل من النسخ الآثرية، حيث يمكنك الاحساس بشعور جديد داخل قاعات V&A التي تمتلئ بتماثيل وأقواس وأبواب وقطع معدنية، وتسيطر على الغرفة الرئيسية نسخة هائلة من عمود "تراجان" العملاق حتى أنهم اضطروا إلى قطعه نصفين حتى يمكن إدخاله إلى المبنى.
ويقول بريندان كورمييه الذي أشرف على الجناح الخاص في V&A " كان الفيكتوريون أكثر اهتماما بإظهار الفن والهندسة المعمارية من مختلف أنحاء العالم"، ويوضح معرض " الأجزاء الهشة من العالم" التهديد الذي تمثله هذه النسخ على المدن التراثية مثل تدمر، وتابع كورمييه " إذا أردت التواصل مع المواطن البريطاني في القرن 19 وعظمة عمود التراجان عليك أن تجد وسيلة لتمثيل عمود تراجان".
وتعد المحاولة الأكثر شهرة في إعادة بناء مدينة بأكملها لما كانت عليه سابقا هي وارسو بلا شك بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تحطم أكثر من 90% من المدينة عام 1945، وسعت السلطات لإعادة بناء المدينة القديمة كما كانت خلال العصر الذهبي في أواخر القرن 18، ولتحقيق ذلك لم تعتمد السلطات فقط على الخطط التاريخية لكنها اعتمدت أيضا على سلسلة لوحات للرسام "برناردو بيلوتو" وهو ابن شقيق وتلميذ كاناليتو، وكان الفنان بيلوتو لا يتورع عن تحسين الواقع، ومن ثم استخدمت هذه الرؤية المثالية كمصدر إلهام لإعادة بناء وارسو، وكانت النتيجة ناجحة للغاية حتى أن الزوار لم يدركوا أنهم يسيرون في نسخة من المدينة وكأن ما حدث لها في القرن العشرين لم يحدث أبدا.
وكان الناجون يهتمون بالرمزية ولاتزال إعادة بناء وارسو إحدى نقاط الفخر الوطني، ، وتقول إيما كونليف من بلوشيد وهي مؤسسة خيرية معنية بحماية المواقع الآثرية من الصراعات والكوارث الطبيعية " من نقاط الفخر التاريخية في وارسو معرفة أنه أعيد بناؤها والتفكير في مثل هذه المهارة التي لا يصدقها عقل ومرونة وقوة الناس الذين أعادوا بناءها".
ولن تعتمد إعادة البناء البطيئة لتدمر على لوحات ولكن على قاعدة بيانات "ملايين الصور" التي أنشأها معهد الآثار الرقمي بتمويل من أكسفورد للفيزياء، واستطاع معهد الآثار الرقمي استنادا للصور ثلاثية الأبعاد من كاميرات المتطوعين إعادة بناء نموذج رقمي للمبنى، حيث تم طباعة المبني من الحجر الصناعي، وأضيفت تفاصيل السطح من خلال تقنية نحت ثلاثية الأبعاد، وساعد توافر برنامج ثلاثي الأبعاد مفتوح المصدر على تبسيط ما اعتاد أن يكون صعبا في السابق، ما سمح للمجتمعات تحت التهديد بأن تلعب دورا حاسما لأنفسها دون انتظار مساعدة المنظمات الدولية، وتعد مبادرة "تدمر الجديدة" مستوحاة من باسل كرتابيل مطور البرامج الفلسطيني السوري الذي لعب دورا رئيسيا في الوصول إلى البيانات المفتوحة في سوريا، وخلق هذا المشروع نماذج ثلاثية الأبعاد معتمدة على المصادر المتعددة والبيانات المفتوحة.
وحصل كرتابيل على جائزة الحرية الرقمية لجهوده لتعزيز خدمة الأنترنت المجانية في البلاد، واحتجزه النظام السوري لمدة 4 سنوات، ولا يزال موقعه الحالي وحالته الصحية غير معلومين، وذكر براي ثرو المدير المؤقت للمشروع حتى الافراج عن كرتابيل " مشاركة وإنشا أعمال مشتقة هي جوهر مهمتنا، فبدلا من إنفاق الموارد لبناء الأنقاض في ساحة طفلغار فلدينا نماذج ثلاثية الأبعاد للتحميل ويمكن لأي شخص طباعتهم"، وبالمثل عندما دمر زلزال وسط كاتماندو في أبريل/نيسان من عام 2015 تعهد المانحون الدوليون ب 4.1 بليون دولار لإعادة الإعمار وبرزت منظمة تدعى "ريكري" والتي شاركت في إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد من متحف الموصل في العراق، وبالمثل بدأت المنظمة في محاولة إعادة البناء الرقمية لساحة دوربار المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي في منتصف كاتماندو.
وكان هناك عدد قليل جدا من الخطط لإعادة بناء كاتماندو على عكس وارسو وتدمر، حيث لم يكن هناك الكثير من المعلومات قبل وقوع الكارثة، وعقدت وزارة الآثار في نيبال خططا قليلة لنحو 220 من الآثار التي دمرت في الزلزال، وتم الاعتماد على حشد من الصور وصُنفت من قبل المتطوعين وتم إدخالها في برنامج نمذجة تصويري Sketchfab لإعادة تشكيل هندسة المباني المفقودة، وفي محاولة لإحياء تراث نيبال قامت منظمة أخرى تدعى مؤسسة الآثار الرقمية باستخدام كاميرات ثلاثية الأبعاد لجمع البيانات عن المعابد والأبراج البوذية التالفة والباقية لإنشاء مورد رقمي مفتوح يمكن الاعتماد عليه عند وقوع كارثة المرة المقبلة، ويعتبر أول هيكل يمكن إعادة بنائه هو معبد Ranipokhari الملكي الذي يعود للقرن 17، ويتوقع أن تستغرق إعادة إعماره ستة أشهر بتكلفة 776 ألف أسترليني.
ومن أحدث الاقتراحات في ما يتعلق بهذه التكنولوجيا اقتراح ريتشارد كاميرون وجيمس غرايمز من Atelier & Co لإعادة بناء محطة Beaux-Arts للفنون والمفقودة في نيويورك والتي دمرت عام 1963 من خلال الجمع بين الخطط الأصلية وتكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد، ومع انتشار هذه التكنولوجيا يستضيف معهد الآثار الرقمي مؤتمر في جامعة هارفارد في سبتمبر/ أيلول مع اليونسكو للوصول إلى توافق في الآراء بشأن المبادئ التوجيهية العالمية لإعادة الإعمار، ويحظى معرض V&A بخطط مماثلة في العام المقبل لتنسيق اتفاقية بشأن النسخ الحرفي.
ويقوم قوس تدمر بجولة إلى نيويورك ودبي ويتوقع تثبيته في تدمر ذاتها بحلول الخريف بعد إخراج "داعش" من المدينة. وزعم قائد الآثار السوري أن كل شئ دمره "داعش" يمكن إعادة بنائه في 5 سنوات، وأضاف روجر ميشيل مدير معهد الآثار الرقمية " نأمل في أن يستمر الوضع العسكري في سورية في حل نفسه خلال الأشهر القليلة المقبلة لتحقيق أمن وسلامة الأشخاص الذين يعملون ويعيشون هنا"، ويمكن أن تلعب التكنولوجيا الرقمية دورًا مهمًا في الحفاظ على عناصر معينة تم تدميرها في البلاد الى جانب الشعب نفسه.
وتعد معاناة تدمر الأخيرة بسبب "داعش" ندبة في قصة طويلة، لكن حماة البيئة يقولون أنها ندبة يجب إظهارها. وتابع كونليف " إذا أعدنا بناء شيء فإننا يمكن أن ندمج ما حدث في هذا الموقع وكيف أثر على الناس مع تذكر أولئك الذين ماتوا والذين فقدوا شئيا، ولا تقل هذه القصص أهمية عن تاريخ الموقع".