بيروت - فلسطين اليوم
يُشكّل الإبداع الروائي مادة ثرية لبحث المُتغيّرات في "ثقافة الزمان - المكان" وفهم دلالاتها، وهو ما يتجلى في الرواية الجديدة للكاتب الروائي والشاعر نعيم صبري "صافيني مرة".
وتحكي الرواية مسيرة جيل بدأ وعيه مع أغنية "صافيني مرة" التي شكّلت بداية الصعود الفني للمطرب الراحل عبدالحليم حافظ وهو الجيل الذي تفتح وعيه مع ثورة 23 يوليو 1952 وعاش أعوام انتصارات وانكسارات هذه الثورة المصرية التي قادها جمال عبدالناصر، كما كابد متغيرات الواقع بين "الأحلام الكبيرة والطموحات النبيلة والتحديات القاسية".
وصاحب الرواية ذاته الذي تخرج في كلية الهندسة بجامعة القاهرة هو أحد أبناء هذا الجيل المفعم بالحنين لزمن مضى وغنى فيه عبدالحليم حافظ أغنية "صافيني مرة" التي لحّنها رفيق مشواره محمد الموجي في الشطر الأول من خمسينات القرن العشرين بحديقة الأندلس القاهرية لتفتح له أبواب الشهرة وتكون علامة إبداعية فنية لجيل بأكمله، وإذا كانت مجلة "نيويوركر" الأميركية والمعروفة بمضمونها الثقافي الرفيع المستوى، قد تناولت مؤخرا باستفاضة أيقونة غنائية قدمها المبدع النوبلي الأميركي بوب ديلان في عام 1974 بعنوان "دماء على المسارات" فللإبداع الروائي المصري أن يتواشج مع أيقونات غنائية مصرية مثلما فعل نعيم صبري في روايته الجديدة "صافيني مرة".
وأصدر نعيم صبري من قبل رواية بالعنوان الدال "دوامات الحنين"، واختار لكتاب عن سيرة طفولته عنوان "يوميات طفل قديم" فإن حي "شبرا مصر" استقر في وجدانه كعلامة إبداعية بقدر ما خاض في التاريخ الاجتماعي والثقافي لهذا الحي القاهري وواقعه ومتغيراته كما فعل في روايته الجديدة "صافيني مرة" لتكون علامة إبداعية في دراسة متغيرات ثقافة "الزمان - المكان" أو ما يسمّيه البعض اختصارا لدمج مفهومي الزمان والمكان "الزمكان".
ولئن كانت الرواية الجديدة تدور أحداثها في فضاء حي شبرا مصر الواقع شمال القاهرة فقد سبق لنعيم صبري وأن أصدر رواية بعنوان "شبرا" ضمن 12 رواية لهذا المبدع المصري الذي تفرغ للأدب اعتبارا من منتصف تسعينات القرن الماضي، بينما بدأ مسيرته الأدبية بكتابة الشعر ليصدر ثلاثة دواوين.
وصاحب روايات: "أمواج الخريف" و"المهرج""وتظل تحلم ايزيس" ودواوين الشعر: "يوميات طابع بريد عام" و"تأملات في الأحوال" و"حديث الكائنات" اختار منطقة "شبرا مصر" التي شهدت أعوام طفولته وتكوينه لتكون هذه المنطقة القاهرية العنوان المضيء للتنوع المصري البناء كأحد أهم عناوين الشخصية المصرية في تسامحها وانفتاحها على الآخر واحتفالها بالحياة وانصهارها في الجسد المصري الواحد حتى أن "أسرة نبيل حنا في رواية صافيني مرة اعتادت سماع القرآن الذي تبثه إذاعة القاهرة في الثامنة والنصف مساء بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل".
ومع أنه تناول إبداعيا في روايته الجديدة "صافيني مرة" مثالب وسلبيات التجربة الناصرية فإن نعيم صبري كمثقف مصري لم يتخلّ عن الإنصاف وهو ينتصر للإنجازات الكبيرة لهذه التجربة التي غيرت أوجه الحياة في مصر والعالم العربي بل والعالم الثالث بأكمله وجسدت معنى "استقلال الإرادة الوطنية".
ولئن جاءت الرواية الجديدة لنعيم صبري "صافيني مرة" مترعة بألوان الحب والشقاء الإنساني وأسماء أماكن شهيرة في حي شبرا مصر وأيام فاصلة وتحديات خطيرة مثل حرب الخامس من يونيو عام 1967 فإن عبدالحليم حافظ الذي غنى هذه الأغنية وهو مطرب ثورة 23 يوليو يبقى أيقونة الجيل الذي عاش طفولته وشبابه في ظل قائد هذه الثورة المصرية التي تبقى ملهمة كما تبقى دروسها موضع تقييم تاريخي واجب من أجل الغد الأفضل.
ومن المفارقات في دراسة متغيرات "ثقافة الزمان-المكان" أن تأتي الرواية الجديدة "صافيني مرة" مستعيدة زمنا مضى بأيقوناته الغنائية مع جدل فرض نفسه على منابر ثقافية وصحافية مصرية بشأن ظواهر جديدة في الغناء مثل ما أطلق عليه البعض "ظاهرة ا حمو بيكا بعد أن تجاوزت نسبة أغنيته وش غضب عبر "يوتيوب" عشرة ملايين مشاهدة خلال شهر واحد".
وبصرف النظر عن الجدل بين مدافعين ومنتقدين لهذه الظاهرة الغنائية الجديدة التي يعتبرها البعض بمثابة إفساد للذوق العام فإن متغيرات الذائقة الغنائية والفنية عموما أمر ينبغي دوما قراءة دلالاته التي تتجاوز صخب المؤيدين والمنتقدين على سطح المتغيرات، وهي قراءة تتطلب عتادا ثقافيا لمقارنات بين السياقات المجتمعية لأغنية مثل "صافيني مرة" والأغنية الجديدة المثيرة للجدل "وش غضب".
كما أنه لا يجوز لهذا الجدل الصاخب أن يحجب حقيقة تعدد وتنوع الأذواق كما تبدت في الإقبال الكبير على الحفلات الغنائية لمهرجان الموسيقى العربية في دورته الأخيرة التي اختتمت يوم الثاني عشر من الشهر الجاري، بينما أهدت إدارة المهرجان احتفاليات هذه الدورة السابعة والعشرين في دار الأوبرا المصرية لأيقونة فنية مصرية أخرى وهي المطربة الراحلة شادية، فإذا كان هناك من يقبل على أغان يستهجنها البعض مثل "وش غضب" أو ظواهر غنائية جديدة مثل ما يسمى "بظاهرة بيكا وشطة" فهناك أيضا من يقبل على فعاليات غنائية وموسيقية رفيعة المستوى تماما كما أقبل البعض في سبعينات القرن الماضي على أغاني أحمد عدوية، بينما استمر عبدالحليم حافظ راسخا بروائعه الغنائية في ذائقة رجل الشارع ناهيك بالنخب.
وسواء في حي "شبرا مصر" كمحور للزمان-المكان في الرواية الجديدة "صافيني مرة" أو غيره من أحياء القاهرة وكل ربوع مصر تبقى الحاجة مستمرة لدراسة التغيرات في التعبيرات الثقافية-الفنية وتحليل أنماط الغناء وصولا لفهم دلالات التغير في سياقات ثورة الاتصالات.
ولا أحد بمقدوره في الغالب أن يفلت من تأثير المكان وهذا ما يتجلى بوضوح في رواية "صافيني مرة" ناهيك بإبداعات هرم الرواية المصرية والعربية أديب نوبل نجيب محفوظ الذي ولد في حي الحسين وعاش في هذا الحي القاهري طفولته وصباه وشبابه الأول.
والظاهرة حاضرة أيضا في إبداعات توفيق الحكيم حيث اتخذت روايته الشهيرة "عودة الروح" من حي السيدة زينب القاهري مسرحا لها وكذلك فعل يحيى حقي في روايته "قنديل أم هاشم" حيث اتخذ من هذا الحي الشعبي العريق بيئة للرواية.
ولعل "شبرا مصر" وجدت في إبداعات وكتابات وكتب نعيم صبري وغيره من يكتبها على مستوى يليق بعبقريتها الجغرافية والإنسانية ويستخدمها بيئة لعمل إبداعي كبير ويستخدم قاموسها الإنساني كما استخدم الحاضر الغائب نجيب محفوظ "قاموس حي الحسين الشعبي" في كثير من الأحيان للتعبير عن أفكاره وتجاربه ناهيك باستخدامه رمزية "الحارة التي تعادل العالم أو الدنيا" و"الفتوات" الذين يمثلون "القوة" ويملئون أدبه بالحيوية فضلا عن "العنصر الصوفي" بما يولده من نشوة كبرى في النفوس.