حكومة الإحتلال الإسرائيلي

تعتبر حكومة بنيامين نتنياهو من أكثر الحكومات الإسرائيلية التي سبقتها، تصعيدًا وتسارعًا في حسم مستقبل القدس السياسي، وذلك بعد عقود من أمر وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان جيشه بإنزال علم إسرائيل الذي رفع على قبة الصخرة المشرفة عقب احتلالها عام 1967.

ومنذ أن احتلت القدس الشرقية سنة 1967 وقررت حكومة ليفي إشكول ضمها وتوحيدها مع القسم الغربي وإعلانها عاصمة موحدة لدولة إسرائيل؛ تبنت إسرائيل مسارين في تعزيز هيمنتها وفرض سيادتها وسيطرتها على مدينة القدس، السياق السياسي والسياق الديني، سياسيًا ضربت بعرض الحائط كل قرارات المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بالأراضي المحتلة وبمدينة القدس، واعتمدت إسرائيل على أساطير دينية ومزاعم صهيونية، وعلى حق القوة، وعلى علاقاتها والتواطؤ الدولي والضعف العربي، وانتهجت سياسة فرض الأمر الواقع، الذي اعتمد في ذات الوقت على الثبات والتدرج والتحسب للمزاج الدولي والعربي شكلًا ومجاملة دون أن ينعكس ذلك على جوهر مسيرة التهويد، سوى ما يتعلق بحدة الوتائر، لكنها على المستوى الديني كانت أكثر تحسسًا وتحسبًا، فاكتفت بحائط البراق، وأبقت على إدارة المقدسات الإسلامية تحت رعاية مؤسسة الأوقاف الأردنية، وأعلنت المحافظة على ما أسمته "الوضع الراهن الخاص بالمقدسات الدينية" لعدم استفزاز مشاعر المسلمين، كما انطوت رسالتها على تسويق شعارات التسامح الديني، وحرص دولة اليهود على احترام إقامة الشعائر الدينية لمختلف الديانات والتزامها بعدم المساس بها، بل وتوفير كل ما يلزم لرعاية أمنها وتمكين إدارتها، وقد ترجم ذلك ميدانيًا بأن أعطيت أوامر للشرطة بمنع اليهود من اقتحامات الحرم وباحاته، سواء بغرض الاستفزاز أو بغرض الصلاة.

كما أن العلم الإسرائيلي الذي رفع على قبة الصخرة بعد احتلال المدينة أنزل عنها بعد ساعات بأمر من وزير الحرب موشيه ديان، واكتفوا بترديد شعار "الحائط بأيدينا" أي حائط البراق، ولم يقولوا "جبل الهيكل بأيدينا"، كما اجتهد كبار الحاخامات إلى إصدار فتاوى "تحرم الصعود إلى الحرم أو الصلاة في باحاته"، أي أن الرسالة الدينية كانت قوية بما يكفي لطمأنة المسلمين والعالم أنه ليس لإسرائيل "العلمانية" أية أطماع دينية في فرض الطابع التوراتي على المدينة أو في أحياء الأساطير الدينية وإذكاء حرب دينية.

وتعتبر حكومة نتنياهو من بين كل حكومات إسرائيل، الأكثر تصعيدًا وتسارعًا في حسم مصير القدس السياسي، ويعود هذا ربما لسببين؛ الأول أنها مشكلة من ائتلاف هو الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ حكومات إسرائيل بسياساته وتوجهاته المعلنة، وهو يمثل أغلبية كبيرة من المجتمع الإسرائيلي، والثاني يعود ربما في موقعه على درجات السلم الزمني لاستكمال فرض السيادة، فالحكومة هنا ليست إلا آداه تنفيذ لتوجه استراتيجي أقر منذ احتلال القدس وترك للحكومات المختلفة تنفيذه عبر هامش من التكتيك والمناورة، واليوم حكومة نتنياهو تقوم بدورها التاريخي باستكمال التوجه الصهيوني الاستراتيجي، لكن على طريقتها بالكثير من الاستفزاز والاستعراض والعنترية والوقاحة والتحدي، بهدف الاستخدام المزدوج، فمن جهة تقوم بدورها الصهيوني، ومن جهة أخرى تستغل ذلك لتعزيز موقعها ورفع أسهمها تمهيدًا للانتخابات المقبلة.

لقد وصف نتنياهو التصعيد في القدس بالمعركة على القدس، مضيفًا أنها ربما ستطول، لكنه مصمم على الانتصار بها، فهو ينظر للمقاومة الفلسطينية في القدس على أنها تحدٍ للسيادة الإسرائيلية، ويعد جمهوره أن قواته الأمنية قادرة على الانتصار في المعركة على السيادة، على اعتبار أن التهديدات على السيادة الإسرائيلية هي مجرد تهديدات أمنية، بعد أن حسمت الديموغرافيا الاستيطانية والصمت الدولي المتواطئ والمتفهم التهديدات السياسية.

وفي سياق توفير عوامل النجاح بقدر كافٍ للمسار السياسي؛ فإن نتنياهو - وفق دراسة لمركز "أطلس للدراسات الإسرائيلية" - ومعه بعض أقطاب حكومته ليبرمان ولبيد وليفني، يعملون على تخفيف حدة التوتر الديني عبر فرملة وتنفيس واحتواء بعض الهجمات وأشكال التصعيد الديني اليهودي ضد المسجد الأقصى، لكن بخجل واستحياء خشية الصدام مع أقطاب الصهيونية الدينية والمتطرفين المهووسين، وهم كثر في الكنيست وفي الأحزاب الصهيونية، وقد كان للموقف الأردني بسحب سفيره من تل أبيب للتشاور والتهديد بإعادة النظر باتفاقية "وادي عربة" وانفجار المقاومة الشعبية في القدس دورًا هامًا وسببًا رئيسيًا لتصريحات نتنياهو عن حرص حكومته على المحافظة على الوضع الراهن، وانتقاد نتنياهو وليبرمان لتصريحات بعض الوزراء التي وصفوها بأنها تساهم في زيادة أجواء التوتير لأغراض حزبية.

وحسب مركز "أطلس للدراسات الإسرائيلية"، فأن نتنياهو وأقطاب حكومته المسكونين بهواجس إحياء المزاعم التوراتية وأساطير التاريخ التناخية لم يتنازلوا ولن يتخلوا عن حلم إعادة إحياء تاريخ ديني مزعوم بإحياء مملكة داود، التي شرعوا في بناء مدينة داود وحدائقها على أراضي بلدة سلوان، وبناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، لكنهم يميزون بين السيادة السياسية وبين السيادة الدينية، فالأولوية والأفضلية لتأمين السيادة السياسية أولًا، التي لا بد منها كشرط مسبق للفرض المزيد من أشكال الهيمنة الدينية، وصولًا إلى التقاسم الزماني والوظيفي للمسجد الأقصى، وسحب إدارة الأماكن المقدسة للمسلمين من الأوقاف الأردنية، ومنح السيطرة والإدارة عليها لوزارة أو سلطة الأديان الإسرائيلية، ومستقبلًا إلى بناء هيكلهم المزعوم.

وعمليًا فإنه يبدو أن العرب والفلسطينيين والعالم على المستوى الرسمي على الأقل قد سلموا بحقيقة قوة الواقع الاحتلالي ومخرجاته الديموغرافية في المدينة المقدسة، ولم يبقَ لهم إلا الغضب والتنديد والتهديد لحماية المسجد الأقصى، وكأن لسان حالهم يقول "كله إلا المسجد الأقصى"، الأمر الذي يشبه إلى حد كبير قصة جحا الشهيرة عندما التهمت النار قريته.