السفارة الأميركية

شكر نتنياهو يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، داخل غرفة اجتماعات في مكتبه، المجموعة الصغيرة من القساوسة والنشطاء لما مارسوه من ضغوط على الرئيس ترامب حتى يفتح السفارة مخالفًا بذلك سياسة أميركا التي استمرت لعقود، وكانت تقضي بأن وضع القدس ينبغي أن يتقرر من خلال محادثات السلام.

ما هي السفارة التالية؟ ذلك ما أراد نتنياهو معرفته وهو يتفقد قائمة بأسماء البلدان الأخرى التي توجد بها كنائس تبشيرية قوية. ويذكر أن غواتيمالا والبراغواي لحقتا مباشرة بالولايات المتحدة وأعلنتا عن نيتهما نقل سفارتيهما من تل أبيب إلى القدس، ولكن ماذا عن البرازيل والهند أو حتى الصين؟.

رئيس الوزراء كان في غاية الحماس
يذكر ماريو براميك أن "رئيس الوزراء كان في غاية الحماس" وبراميك هذا الذي كان حاضرًا في اللقاء قس أميركي من أصول كوبية يعمل في كنيسة خمسينية بالقرب من ميامي، وهو من أنصار ترامب، ما تحقق خلال الأسبوع الماضي من افتتاح السفارة الأميركية في القدس، فيما يعتبر ذروة عقود من ممارسة الضغط السياسي على الحكومة الأميركية، يرقى إلى كونه أكبر اعتراف علني حتى الآن بما توليه حكومة نتنياهو من اهتمام بحلفائها من المسيحيين المحافظين، حتى وإن كان بعضهم متهمًا بإصدار تصريحات معادية للسامية، وفق تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز".

إسرائيل تعتمد على دعم الشتات اليهودي
ظلت إسرائيل منذ وقت طويل تعتمد على دعم الشتات اليهودي، إلا أن حكومة نتنياهو أحدثت نقلة تاريخية واستراتيجية حينما بدأت تعتمد على قاعدة أضخم وأوسع تتكون من التبشيريين المسيحيين، حتى ولو كان في ذلك مخاطرة تتمثل في فقد دعم يهود أميركا الذين قد يزعجهم ما يمارسه بعض التبشيريين من تحقير للدين اليهودي.

المفارقة هنا معروفة جيدًا: وذلك أن اعتقاد كثير من المسيحيين التبشيريين أن إسرائيل لها وضع خاص عند الرب – بل يعتبرها بعضهم مؤشرًا على نبوءات آخر الزمان – يقود كثيرين منهم إلى الغلو في دعم الدولة اليهودية بينما يصرون في نفس الوقت على أن الخلاص إنما يكون من نصيب من يقبل بيسوع مخلصًا.

حسبة نتنياهو تعكس حسبة حليفه القوي في واشنطن
حسبة نتنياهو تلك إنما تعكس حسبة حليفه القوي في واشنطن، حيث إن ترامب ينهل من نبع الدعم التبشيري المتدفق. ولقد شارك عدد من كبار مستشاريه التبشيريين في حفل افتتاح السفارة وكذلك في اجتماعات مغلقة مع السيد نتنياهو طوال الأسبوع الماضي. إلا أن الإسرائيليين الليبراليين يحذرون من أن العلاقات الوثيقة والمتنامية بين اليمين الإسرائيلي واليمين المسيحي تسرع من حالة الاستقطاب التي تؤدي إلى تحول دعم إسرائيل إلى قضية حزبية في واشنطن، ولا عجب أن نائبًا ديمقراطيًا واحدًا لم يحضر افتتاح السفارة.

كما يشكو الليبراليون اليهود من ازدواجية المعايير التي تمارسها الحكومة اليمينية التي يترأسها السيد نتنياهو، وذلك أنها تبدي حساسية أكبر تجاه أي ادعاءات بالتعصب تنسب إلى اليسار السياسي بينما تغض الطرف عما يبدر من مؤيديها المحافظين.

يقول الحاخام دافيد ساندميل، مدير التواصل بين الأديان في رابطة مناهضة التشهير: "أعداد الناخبين في أوساط التبشيريين تفوق بمراحل أعداد الناخبين اليهود. ولذلك قد تقول الحكومة الإسرائيلية إنه في سبيل الحصول على ذلك الدعم فلن نبدي كثيرًا من الاهتمام إزاء هذا التصريح أو ذاك التصريح ما قد يبدو لنا إشكاليًا".

شهد الأسبوع الماضي صورًا جلية من هذه المقايضات، ومنها تلك التي تخص روبرت جيفريس، وهو من أوائل داعمي ترامب وأكثرهم صدحًا بذلك، وكان جيفريس، الذي يعمل قسًا في كنيسة معمدانية جنوبية كبيرة في مدينة دالاس، هو الذي رتل الصلاة التي افتتحت بها عملية تدشين السفارة. وحذّر من أنه "لا يمكنك أن تنجو بكونك يهوديًا"، وقال إن اليهودية والإسلام والهندوسية والمرمونية تقود أتباعها إلى الخلود في الجحيم.

وأومأ في صلاته الافتتاحية التي أداها إلى النبوءات التوراتية حول المجيء الثاني للمسيح، مشيرًا إلى أن تأسيس دولة إسرائيل الحديثة قبل سبعين عامًا كان بمثابة "إعادة تجميع" لشعب الرب. ثم ختم صلاته "باسم الرب وروح أمير السلام، سيدنا يسوع"، وهي عبارة تبجح مسيحية أرقت حتى أكثر المنظمين اليهود نشاطًا ضمن التحالف مع المبشرين.

يقول الحاخام ياشئيل إكستين، مؤسس الزمالة الدولية بين المسيحيين واليهود: "تجد هذا التبشيري يختم صلاته بعبارة يعرف يقينًا أنها غير لائقة، ويعرف أن اليهود المتواجدين سيستاؤون منها، وأنهم لن يتمكنوا من التعقيب على صلاته بكلمة آمين"، محذرًا من أن مثل هذه الصلاة المسيحية بشكل صريح أحيت مخاوف لدى كثير من اليهود من أن الدعم التبشيري لإسرائيل إنما هو "وسيلة لتطويعنا وإعدادنا لاستقبال يسوع من الباب الخلفي".

يقول الحاخام ساندميل من رابطة مناهضة التشهير إن جيفريس كثيرًا ما يصدر تصريحات تعتبرها المجموعة "غير مقبولة"، مشيرًا إلى أنه طوال التاريخ كانت التصريحات المشابهة لمواعظه بأن اليهود سينتهي بهم الأمر إلى الجحيم كثيرًا ما تساهم في تأجيج أعمال العنف المعادية للسامية.

هآرتس الإسرائيلية الليبرالية تعلّق
في افتتاحية نشرتها في عددها الصادر يوم الجمعة علقت صحيفة هآرتس الإسرائيلية الليبرالية على ذلك قائلة إن ذلك كان بمثابة "لكمة في بطن اليهود الأميركيين". ورأت الصحيفة أن التحالف مع التبشيريين "يقوض مكانة إسرائيل في مراكز النفوذ التقليدية – وأهمها على الإطلاق يهود الولايات المتحدة، الذين يعتبرون التبشيريين خطرًا ماحقًا يهدد قيمهم" ومن شأن هذا التحالف أن يخاطر بإقصاء "الأنصار الذين قد تحتاجهم في تشرين الثاني القادم فيما لو فاز الديمقراطيون بالسيطرة على مجلس الشيوخ أو مجلس النوب في الولايات المتحدة".

كان نتنياهو يجلس في الصف الأمامي إلى جانب جاريد كوشنر، زوج ابنة الرئيس ترامب ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط، وكلاهما صفقا بأدب قبل وبعد تلاوة جيفريس لصلواته.

المبشر التلفزيوني، جون سي هاغي، الذي تلا الصلاة الختامية كان قال إن المحرقة (الهولوكوست) وقعت لأن الرب "من أولى أولوياته إعادة الشعب اليهودي ليستقروا في أرض إسرائيل،" تمهيدًا للمجيء الثاني للمسيح. ولكنه ما لبث أن قال في رسالة عبر البريد الإلكتروني إن تصريحه الذي جاء في خطبة حول مشكلة الشر في عالم خلقه الله، قد أخرجت من سياقها، ثم اعتذر عن أي إساءة قد يكون تسبب بها.

أما السفير الأميركي لدى إسرائيل، دافيد فريدمان، والذي أدار حفل تدشين السفارة فقال إن المبشرين المسيحيين "يدعمون إسرائيل بحماسة وإخلاص يفوقان ما يتوفر لدى كثيرين من أبناء الجالية اليهودية". وقال في مقابلة صحافية: "حينما تدير بلدًا فأنت بحاجة إلى أصدقاء، وبحاجة إلى حلفاء، وبحاجة لأن تحمي نفسك".

الإسرائيليون يقللون من أهمية ما يؤمن به حلفاؤهم المسيحيون
كثير من الإسرائيليين، وخاصة ممن هم في اليمين، يقللون من أهمية ما يؤمن به حلفاؤهم المسيحيون باعتباره مجرد قضية نظرية، ويرددون النكتة القديمة التي تقول حينما يصل المسيح فسوف نسأله إذا ما كانت تلك زيارته الأولى أم الثانية.

لم تكن علاقات نتنياهو باليهود الليبراليين في الولايات المتحدة سلسة، وذلك جزئيًا بسبب ما يعتبرونه عدم اهتمام من طرفه باستئناف محادثات السلام مع الفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب خضوعه لحاخامات إسرائيل الأرثوذكس بشأن الجدل الذي يدور مع زعماء التيار الإصلاحي والتيار المحافظ حول اعتناق اليهودية والصلاة في الحائط الغربي، ولذلك فإن تحالفه مع التبشيريين يحرره من الحاجة إلى استرضاء اليهود الليبراليين.

يقول أنشيل بفيفر، مؤلف كتاب حول سيرة نتنياهو: "يعتقد أنهم سيذوبون وأنهم لن يعودوا مهتمين بهويتهم اليهودية. ويرى أن الأقلية الأرثوذكسية من يهود أميركا، والتي هي أكثر انسجامًا وتوافقًا مع فكره اليميني، سيشكلون أغلبية اليهود الأميركيين بعد جيل أو جيلين. ويرى أن الجمهوريين والمبشرين المسيحيين وليس اليهود في أميركا هم من يشكلون القاعدة الصلبة لدعم إسرائيل داخل الولايات المتحدة".

استطلاعات تؤكد أنّ تأييد الحكومة الإسرائيلية يتنامى داخل اليمين الأميركي
تشير استطلاعات الرأي إلى أن تأييد الحكومة الإسرائيلية يتنامى داخل اليمين الأميركي بنفس القدر الذي يتنامى به النقد الموجه إليها في أوساط اليسار، ويتبين من تعداد السكان أن النسبة المئوية لليهود بين الناخبين الأميركيين آخذة في التناقص، وهي أكثر تراجعًا في أوساط اليهود من غير الأرثوذكس.

وهذا سفير إسرائيل في واشنطن، رون ديرمر، والذي يشارك بانتظام في النشاطات التي تنظم هناك لكسب تأييد التبشيريين، يقول إن "المسيحيين الملتزمين دينيًا" يشكلون الآن "العمود الفقري" للدعم الذي تحظى به إسرائيل داخل الولايات المتحدة. وأضاف في إحدى المقابلات التي أجريت معه: "لا ريب أنه جزء صلب من الشعب، ولعله من حيث العدد يعادل عشرة أضعاف عدد اليهود أو ربما 15 أو 20 ضعفًا".

إلا أن ديرمر أصر على أن إسرائيل لا تقصد إطلاقًا إلغاء دور الديمقراطيين أو اليهود الليبراليين في أميركا. وقال: "بإمكانك القول إن ثمة تبدلًا هنا أو هناك، ولكن بالنسبة لنا من الواضح أن من المهم أن نحظى بدعم قوي وأن يشارك في ذلك الجميع ومن كلا الحزبين.

 لا يمكنك أن تحلق بطائرة ليس لها سوى جناح واحد". أما عالميًا، فالنسب مذهلة، حيث يقدر عدد التبشيريين بما يقرب من ستمائة مليون، وتقود النمو في الأعداد بلدان أميركا اللاتينية التي كانت تقليديًا تتبع المذهب الكاثوليكي.

يقول الليبراليون الإسرائيليون إن احتضان نتنياهو للتبشيريين الأميركيين لم يكن المرة الأولى التي يبدو فيها توجسه من معاداة السامية انتقائيًا.

ففي الخريف الماضي، على سبيل المثال، أطلقت الحكومة اليمينية في المجر حملة دعائية كلفتها عدة ملايين من الدولارات لمهاجمة الممول الليبرالي وأحد الناجين من المحرقة، جورج سوروس، بسبب دعمه للهجرة المفتوحة، واشتملت الدعاية المستخدمة ضده على لوحات إعلانية كبيرة في الشوارع تحمل رسومات معادية للسامية.

ندد السفير الإسرائيلي لدى المجر بالدعايات التي تحمل ما يشير إلى المحرقة وقال إن الحملة "تثير ذكريات حزينة وتبث كذلك الكراهية والخوف".

إلا أن حكومة نتنياهو أصدرت "توضيحًا" قالت فيه إن السفير قصد فقط التنديد بمعاداة السامية بشكل عام. وجاء في بيان الحكومة: "لم تقصد التصريحات بأي شكل من الأشكال نزع الشرعية عن انتقاد جورج سوروس، والذي ما فتئ ينال من حكومات إسرائيل المنتخبة ديمقراطيًا".

ومع ذلك يصر الحاخام ساندميل من رابطة مناهضة التشهير على أنه إذا كان التبشيريون المسيحيون في بعض الأوقات يظهرون بمظهر شوفيني إزاء عقيدتهم، فقد يرى البعض أن دعمهم لدولة إسرائيل يساعد في التكفير عن ذلك.

يذكر أن علاقات نتنياهو مع المحافظين المسيحيين في أميركا أقوى من علاقاته بأي مكون آخر في الخارج.

ويقول الحاخام إكستين من الزمالة الدولية بين المسيحيين واليهود إن نتنياهو يتمتع بشعبية في أوساط التبشيريين تفوق ما كان يتمتع به أي رئيس وزراء إسرائيلي سابق.
ويقول الحاخام إكستين: "بإمكانه أن يخاطبهم بلغتهم، وتراه مرتاحًا بينهم، وكأنه يبادلهم حبًا بحب".

وقال السفير فريدمان إنه دعا جيفريس وهاغي لأنهما "اثنان من أكثر الزعماء أتباعًا في الوسط التبشيري وأردت أن أكرم هذا المجتمع لما قدمه من مساعدة بناءة ساهمت في قرار نقل السفارة".

وقام نتنياهو بدوره بدعوة أكثر من مائة من كبار الزوار إلى وزارة الخارجية للمشاركة في احتفال نظم عشية افتتاح السفارة وتوجه بشكر علني لهاغي بسبب دعمه منذ وقت طويل لإسرائيل.

وفي مقابلة أجريت معه قال هاغي: "عرفت رئيس الوزراء نتنياهو منذ سنين طويلة وأنا فخور بأن أعتبره صديقًا لي، وأعتبره من وجهات متعددة تشيرشيل زماننا هذا".

يقول إيلي بيبرز، وهو يهودي أرثوذكسي يمثل منظمة للمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية: "إذا كان هناك شخص في هذا العالم ساعد إسرائيل واليهود في جمع المال وبناء الدعم السياسي فإنه القس هاغي".

واعتبر جيفريس أن من السخف مساواة المعتقدات المسيحية الشائعة حول الخلاص بمعاداة السامية.

وقال في مقابلة أجريت معه: "حقيقة أن المسيحيين يعتقدون أن الخلاص يحصل من خلال الإيمان بالمسيح وحده لا يعتبر تعصبًا ولا يستحق الاهتمام. يفهم الشعب اليهودي ذلك وتفهمه إسرائيل وهما يعتمدان على التبشيريين الذين يعتبرونهما أصدقاء داعمين لهما".

وقال إنه على علاقة "عظيمة" مع ابنة الرئيس إيفانكا ومع زوجها كوشنر، وهو يهودي أرثوذكسي. وقال: "أعتبرهما صديقي، وأعلم أنهما يعتبرانني صديقًا لهما".

وأضاف: "ليس سرًا أن اليسار يكره هذا التحرك الذي يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وسوف يهاجمونه من كل زاوية ممكنة. وهذا جزء من محاولة أكبر للنيل من الرئيس ترامب، ولا أرى لما يقومون به أدنى تأثير".