الجيش الإسرائيلي يرى واقعاً استراتيجياً

"عندما ينظر الجيش الإسرائيلي حوله يرى واقعاً استراتيجياً لا مثيل له منذ قيام الدولة: التهديد الإيراني معلق، والتهديد العسكري السوري لم يعد موجوداً، و"حزب الله" غارق في وحل الحرب السورية والوحل السياسي اللبناني، و"حماس" معزولة، ولا يوجد في الأفق خطر قيام ائتلاف عربي قوي يهاجم حدودنا، وليس هناك أي نسبة بين قوتنا وقوة الأطراف المعادية لنا"، هذا ما كتبه المحلل السياسي الإسرائيلي آري شافيط العام الماضي، في جريدة "هآرتس"، في معرض قراءته للوضع المستجد في المنطقة، مستعرضاً ما يتوجب على إسرائيل فعله كي تكسب رهان المستقبل مستفيدة من الانهيار العربي غير المسبوق.

وترجمت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في بيروت، عن العبرية، كتابات لجنرالات وباحثين إسرائيليين كبار حول الربيع العربي، بينها مقالة شافيط، وجمعت أهمها في كتاب صدر أخيراً بعنوان: "الرؤية الإسرائيلية للصراعات في الشرق الأوسط وانعكاساتها على أمن إسرائيل". الكتاب من إعداد رندة حيدر، وإشراف وتحرير أحمد خليفة، وهو يعطي فكرة واضحة عن رؤية إسرائيل للأحداث الدموية الحالية، ويعطي مؤشرات حول ما تنتهجه من استراتيجيات لتحقيق غايات مستقبلية، خصوصاً أن غالبية هذه الكتابات تكاد تصب في أهداف محددة، وإن اختلفت التوصيفات والأولويات. ومعلوم أن السياسة الإسرائيلية تأخذ بعين الاعتبار الدراسات والآراء العلمية التي تنشر، مما يجعل قراءة الكتاب بمثابة تعرّف على بعض الخطط الإسرائيلية التي يتم العمل عليها.

وتكاد غالبية الأبحاث تجمع على خطورة البرنامج النووي الإيراني، والحركات الإسلامية الصاعدة، وتعتبر أن "سايكس بيكو" سقط، وأن الجميع أمام مرحلة جديدة جذرياً، نتيجة للتقسيم والتفتت. ويقول جدعون ساعر وغابي تسيبوني، وهما باحثان في معهد دراسات الأمن القومي، في دراسة مشتركة لهما: إن سورية، كدولة ذات سيادة في حدودها المعروفة كما كانت سنة 2010، لم تعد موجودة، وأية خطة استراتيجية لوقف الحرب الأهلية يجب أن تنطلق من افتراض أساسي واضح، هو أن سورية المجزأة المقسمة لا يمكن توحيدها من جديد. 

ويستدرك الكاتبان: "من هنا، حان الوقت للقول: وداعاً سورية، وأيضاً: وداعاً سايكس بيكو".

ويدعّم هذا الرأي يعقوب عميدرور (رئيس سابق لمجلس الأمن القومي) الذي ينظر بعين الارتياح إلى انهيار جيوش عربية نظامية كانت تشكل تهديداً لإسرائيل منذ إنشائها، فقد تبدد الجيش العراقي، وتضرر جداً الجيش السوري، لكنه في المقابل يحذر من تنامي الحركات الإسلامية على حدود إسرائيل، معدداً تلك المجموعات الموجودة في شبه جزيرة سيناء، وحماس في غزة، والجهاد الإسلامي في لبنان، وكذلك "حزب الله" الذي يصفه بأنه "التنظيم الإرهابي الأقوى في العالم". ويرى الكاتب أن الأوضاع الحالية التي يمر بها العرب قد تكون فرصة لعقد صفقة سلام بشروط مناسبة لإسرائيل.

لكن هناك مخاوف حقيقية، وهي أن بعض التطورات المفاجئة قد تجعل الطرف الذي تعقد معه الاتفاقية ليس هو نفسه المسيطر في الميدان بعد فترة قصيرة. يضيف الباحثان: "من المحتمل، بل من المعقول، أن تصبح العناصر الأكثر راديكالية في العالم الإسلامي هي المسيطرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، سواء بصورة مباشرة أو من خلال مبعوثين، وهي من سيقرر قواعد السلوك حيال إسرائيل، لذلك فإن إسرائيل ستتعرض للإبادة، إن تراجعت قوتها، أو ضعف تصميمها المطلوب على استخدام القوة".

ثلاث دراسات طويلة ومسهبة في الكتاب لعاموس بادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقاً، ورئيس معهد دراسات الأمن القومي حالياً، وهو يقدم توصيات بشأن الاستراتيجية العليا التي يتعين على إسرائيل تبنيها، وعلى رأسها ما يسميه المسألة الإيرانية، مبدياً ارتياحه لتجميد المشروع النووي الإيراني لأن إيران على مسافة عام واحد من إنتاج القنبلة النووية، لكن تجميد المشروع سيتيح لإسرائيل التخطيط لخمسة أعوام مقبلة، وحتى لعشرة. وبالتالي، يجب أن يكون لديها خطة لبناء قوة تمكنها من مواجهة مختلف السيناريوهات المحتملة، كخرق الاتفاق أو إلغائه أو اندفاع علني أو سري نحو تصنيع القنبلة، وبالتالي على إسرائيل أن تستغل هذه المهلة الزمنية بصورة أفضل لتبني قدرات معززة وجديدة لمواجهة إيران بكل أبعادها ونشاطاتها.

ومن النصائح التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة، والاستعداد الجدي العسكري والسياسي لاحتمال تفكك سوريا، واستمرار المواجهات فيها لأعوام طويلة مقبلة، وكذلك الاستعداد لمواجهة عسكرية شاملة مع "حزب الله" الذي يخطط هذه المرة للسيطرة على مناطق داخل إسرائيل، في حال وقوع حرب، واتخاذ مبادرات حتى ولو من جانب واحد، إن تعذر الاتفاق مع الفلسطينيين، لتحديد حدود الدولة الفلسطينية. لكن النقطتين الأكثر لفتاً للنظر في هذه التوصيات هما: تدعيم القوة الناعمة، والتفوق الأخلاقي، إذ يعتبر بادلين أن تقرير غولدستون، والتخوف من شكاوى ودعاوى ضد إسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، ووسم المنتجات الإسرائيلية، ونشاط حركة المقاطعة وفرض العقوبات، والتحريض المتفلت الذي تتعرض له إسرائيل على الشبكة العنكبوتية، يعتبر نقطة ضعف واضحة في الأمن القومي.

وهو ما يؤكد الخطر الذي تتلمسه إسرائيل من تشوه صورتها المتزايد في العالم نتيجة سلوكها الاستيطاني القمعي، لذلك يلحق بادلين هذه النصيحة بأخرى، مفادها ضرورة الإظهار أمام العالم أن إسرائيل محبة للسلام، وأنها ديمقراطية، ولا ترغب في السيطرة على شعب آخر.

النصائح تتكرر من عدد من الباحثين، لعقد تحالفات مع أقليات مثل الأكراد والدروز، وتذهب إحدى الدراسات إلى تحليل تاريخي لتقول إن الأكراد في المنطقة كانوا منذ زمن طويل حلفاء للغرب، وإنهم اليوم سيجدون مصلحة كبرى في علاقات جيدة مع إسرائيل، وهو ما يتجلى مع أكراد العراق، وما يمكن أن يصح على أكراد سورية، ما داموا يلتمسون دعم أميركا. ويذهب جدعون ساعر للقول: لا يوجد حلفاء طبيعيون كثر لنا في المنطقة، والتحالف مع الأكراد يمكن أن يشكل بداية مسار لبناء تحالفات مع أقليات أخرى تكون تحالفات حقيقية موثوقاً بها وقابلة للاستمرار.

أما توصيات الباحث رون تيرا، فهي الانتباه أولاً إلى أن إسرائيل هي لاعب محدود الموارد، وقدراته في الهندسة السياسية لأطراف ثالثة ضعيفة، لذلك فهي مضطرة للتركيز على استراتيجية جدار دفاعية، وعدم توريط نفسها في مغامرات داخل مناطق عربية، كما عليها التعاون مع أي كان من أجل كبح الصدمات. وفي المقابل، عليها أن تستنزف الآخرين، كأن تسعى لتعميق انزلاق إيران في مستنقع التمدد المفرط، وأن تستخدم دورياً القوة العسكرية بتواضع لإحباط تهديدات ملموسة في مناطق لها فيها مصالح حيوية.

أما التدخل الروسي في سورية، بحسب المحلل السياسي عاموس هرنيل، فقد جاءت انعكاساته سلبية على إسرائيل. ومن بين المشكلات على سبيل المثال أن الرادارات الروسية أصبحت قادرة على تقييد سلاح الجو الإسرائيلي منذ تم نشر الدفاعات الروسية الجوية في طرطوس، دون أن تبذل روسيا أي جهد. ويرصد الكتاب مختلف المتغيرات، ويحاول الباحثون إيجاد الخطط الأكثر نجاعة لإسرائيل. ويسأل آري شافيط: هل قمنا بما فيه الكفاية لاستغلال العهد الذهبي الاستراتيجي الحالي؟ وهل بذلنا كل ما في وسعنا من أجل ضمان الهدوء الحالي، وكي لا يتحول إلى هدوء مخادع؟. يجيب الكاتب نفسه دون تردد: كلا، كلا. لكن في المقابل، تشعر إسرائيل بالارتياح لأنها تحيد أعداءها الواحد تلو الآخر، دون أن تستنزف طاقاتها، إنما في الوقت نفسه ثمة تساؤلات حول ما إذا كانت الفوضى الملتهبة الحالية ستمتد لتحرق إسرائيل أم أنها تملك ما يكفي من الحصانة والقوة لتحمي نفسها؛ وهنا بيت القصيد لكل أبحاث الكتاب.