طرابلس - فلسطين اليوم
تحتل ملصقات الافلام القديمة والاعلانات التي تحذر من احتمال انقطاع الكهرباء او تمنع دخول النساء، جدران الغرفة الصغيرة المؤدية الى صالة السينما التي لا تزال وحدها تضيء شاشتها امام سكان العاصمة الليبية من الرجال وان بشكل متقطع.
ومن بين دور العرض السبع الكبرى في طرابلس، لم يتبق الا صالة "بارادايز" وسط المدينة بعدما اغلقت كل الصالات الباقية ابوابها امام محبي السينما الواحدة تلو الاخرى، قبل سنوات قليلة من ثورة العام 2011 وغرق البلاد في فوضى امنية ونزاع مسلح على السلطة قتل فيه الالاف.
وتتصدر افلام التشويق الغربية الكلاسيكية الملصقات عند مدخل السينما المعروفة ايضا باسم سينما "عمر الخيام" وبينها "سكارفيس" للمثل الاميركي ال باتشينو و"داي هارد" للمثل الاميركي الاخر بروس ويليس، الى جانب ساعة حائط ولوحة كتب عليها "اليوم".
وعلقت على احد الجدران ورقة بيضاء كتب عليها "الادارة غير مسؤولة في حالة انقطاع الكهرباء"، بينما كتب على ورقة اخرى "بناء على تعليمات الادارة يمنع منعا باتا دخول العائلات (في اشارة الى النساء) الى دار العرض حيث استعمل بعض الافراد المكان للقيام ببعض الاعمال التي تتنافى والمبادئ الاخلاقية والدينية".
ويعود تاريخ السينما في العاصمة الليبية الى حقبة الاحتلال الايطالي في عشرينات القرن الماضي حين بدات دور العرض تفتح ابوابها امام سكان المدينة من النساء والرجال والعائلات، ليقتحم الفن السابع حياة الليبيين ويعيش فترته الذهبية التي امتدت حتى سبعينات القرن الماضي.
ويقول عبد المنعم سبيطة الناشط في المجتمع المدني لوكالة فرانس برس "في الستينات، كنا نسكن قرب سينما لارينا جاردينو (المفتوحة). كان يكفيني ان اطل من النافذة حتى اشاهد الافلام".
ويضيف "الذهاب الى السينما كان مكافاة الاسبوع، وكان علينا ان نتانق ونرتدي اجمل ما عندنا (...): ليبيون مسلمون ويهود، ايطاليون، اوروبيون، او اميركيون".
واحتضنت طرابلس المعروفة باسم "عروس البحر المتوسط" في فترة ازدهارها نحو عشرين صالة سينما تشكل معا جزءا مهما من الذاكرة الجماعية لسكان هذه المدينة الساحلية التي تضم قلعة تاريخية ومتحفا ومدينة قديمة ومرفا وشاطئا.
وتروي الليبية البريطانية كريمة الغويل وهي ام لولدين "افضل ذكرياتي عن السينما تعود الى العام 1974 حين اصطحبني والدي لاشاهد فيلم تمريند سيد (بذور تمر الهندي)" للممثل المصري الراحل عمر الشريف، وكان عمرها تسع سنوات حينها.
وتوضح "لا اعتقد انني رايت صالة اجمل منها، حتى في اوروبا. فكل شيء كان انيقا ومهيبا: الكراسي المخملية، والستائر المزركشة، واللوحات الخشبية".
ومع الانقلاب الذي قاده معمر القذافي في العام 1969، بدت الفترة الذهبية للسينما وكانها شارفت على النهاية. وبعد سنوات قليلة من هذا التحول، بدا الاهمال يطال صالات السينما التي توقفت عن عرض اية افلام جديدة واكتفت بالافلام الهندية وافلام الفنون القتالية وبينها الكاراتيه والكونغ فو بعدما راى القذافي في السينما بابا "للغزو الثقافي".
وتقول كريمة "طرابلس من دون سينما هي بداية النهاية بالنسبة لكل شيء، اذ ان مرحلة انحدار السينما تزامنت مع انحدار ليبيا" بشكل عام.
وفي حي الخياطين قرب "ساحة الشهداء" وسط طرابلس، يفصل جدار اسمنتي قطعة ارض صغيرة عن زقاق ضيق، وقد اغلق مدخل قطعة الارض ببابين حديديين متصلين بقفل مغلق باحكام.
لكن الفراغ بين البابين يسمح برؤية ما يخبئان: حجارة تفترش الارض، وجدار مبنى لا تزال تبدو عليه بعض من اثار الشاشة التي كانت تعرض افلاما في الهواء الطلق قبل ان تطفئ انوارها نهائيا في العام 2006.
ويقول محمد كامل الذي يملك مقهى في الحي "الناس هنا لم لكن لديها لتتسلى سوى السينما (...) كنا نشاهد فيها افلام كاراتيه وافلاما هندية".
ويضيف وهو يتحدث بالقرب من سينما "رويال" التي تحولت الى سينما "الشعب" في عهد القذافي "كنا ننتظر فرصة دخول السينما بفارغ الصبر كي نشاهد فيلما فيها. بروس لي كان نجمنا المفضل".
في مقابل ذلك، يستعيد وائل القرمنلي (39 عاما) ذكريات اقل اثارة وسعادة.
ويقول "اذكر انني ذهبت في الثمانينات الى دار عرض لاشاهد فيلم كاراتيه، ووجدت نفسي خائفا، محاطا بمجموعات من المشاغبين. هؤلاء لا علاقة لهم ابدا بزوار السينما في زمن والديّ".
ورغم الحرب التي تلف ليبيا، وتصاعد التطرف عبر جماعات متشددة بدات تجد موطئ قدم لها في الفوضى التي تعم احد اغنى دول العالم بالنفط، يؤكد عبد المنعم ووائل ان الانحدار الثقافي في طرابلس، الخاضعة لسلطة جماعات مسلحة بعضها اسلامية، لن يدوم.
ويقول عبد المنعم "لن ينتزع احد من طرابلس حبها للحياة واناقتها ورغبتها في المضي قدما. هذا محفور في جينات الليبيين".