الكاتب الروائي إبراهيم فرغلى

فى الأيام التى قضيتها فى البيت معتكفًا، مكتئبًا، وجدتُ ذاكرتى تستعيد علاقتى بالمتكتم وإدارته، كما استدعيت نصوصًا عديدة، وأفلامًا سينمائية، ومقالات وموضوعات صحفية ساهمتُ فى حجبها عن الجمهور، ووقيتهم شرور ما فيها، مقصيا سموم الفكر الضال عن عقولهم حتى لا تتسمم بما كان كثير من الكُتّاب المارقين، العلمانيين والملحدين المنحلين يحاولون أن يمرروه إلى الجمهور، ومارست كل صلاحياتى وخبراتى فى وقاية المجتمع من شرور ما جاء فيها، كنت أشعر بالغبن، والغضب، لكنى لم أعبر عن ذلك إلا بالصراخ متجولا فى البيت، مثل المجاذيب، لاعنًا المتكتم وسوء تقديره لمن يجتهد فى العمل.

نعم، لعنته لأنه جسد بالنسبة لى نموذجا لرجل الفضيلة وإشاعة الأخلاق الفاضلة ومكافحة الرذيلة، رجل مقدس بفضل صرامته فى حرصه على منع كل ما يصفه بأنه إباحى ولا أخلاقى عن الناس، حريصًا على مكارم الأخلاق، أديت عملى على أفضل وجه، نعم، كنت بين قلّة قليلة من المتكتمين الذين يفضلون قضاء وقت طويل عقب ساعات العمل الرسمية لأواصل قراءة نص لرواية أو كتاب سياسى أو غيرهما مما كان يرد إلينا بانتظام.

وأحيانًا كنت أقضى يومين متعاقبين بلا نوم، لأنتهى من تقرير، فيما ألاحظ حولى كثيرًا من الموظفين الذين لم أستطع أن أطلق على أى منهم لقب متكتم يوما، ممن كانوا يتصفحون النصوص التى ترد إليهم ثم يكتبون تقريرهم بسرعة.

إنه الأخ الأكبر الذى يراقبك أينما حللت، فى بيتك، فى عملك، فى الشارع، مع أصدقائك، فى المقهى، فى سريرك مع زوجك يتلصص على فعلكما الحميمي، حتى فى أحلامك، سوف يطاردك الأخ الأكبر محددا لك فارضا عليك كتالوجه الموحد عن المأكل والملبس الأفكار، عن عدد أولادك الذين ستنجبهم، عن ما ينبغى أن تقرأه أو تشاهده أو تسمعه، عن كيفية تعاطيك مع العالم.

نعم هو كتيب تعليمات الاستخدام المرفقة بنسخة حياتك، مثلك مثل أى جهاز إلكترونى أو كهربائى يتحكم فيه عن بعد بدون إرادة منك أو محاولة للتمرد على تلك التعليمات.

لكن الأخ الأكبر هنا هو "المتكتم" بكل ما تحمله اللفظة من تستر ورقابة، من مداراة وتقية، من ازدواجية معايير ففى الظلام حيث الكتمان والتخفى لك أن تفعل ما يحلو لك، لكن تحت وضح شمس النهار عليك أن تذعن لتعليمات المتكتم.

فلا كتاب هنا ولا فيلم سينمائي، لا موسيقى ولا غناء، ولا فن ولا أدب، لا شغف بالحياة فى لوحة تشكيلية، إنه فقط ما يقرره لك المتكتم حيث الظلام والظلمة، حيث ظاهر النص لا سبر غوره وتأويله ومحاولة تفكيكه والخوض فى ما وراء حرفيته، إنه النقل لا الإبداع والتجديد والاجتهاد، إنه كل تلك المعانى المخيفة المرعبة عن تلك الحياة التى يريدون فرضها علينا بمقاييسهم وليس علينا سوى السير فى قطعان متشابهة، نسخة واحدة من بعضنا البعض.

"فى الطريق إلى المدينة الجديدة، وبينما كنت أظن أننى أهرب مع طارق من الصوت المدمّر، كان يحكى لى بعضًا من تطورات ما وصلت إليه الأمور فى "مدينة الظلام" حكى لى عن الصمت، قال لى إن الصمت أصبح سمةً عامّة للبشر، أو لظلال البشر، ممن يعيشون فى المدينة العلوية، انتهى عهد الكلام، وأصبحت الكلمة محسوبة على كل شخصٍ وبالتالى على سبيل التقية، فإن كثيرًا من سكان "مدينة الظلام" يؤثرون الصمت حتى لا يتعرضون للخطر! أضاف موضحًا أن أتباع "المتكتّم" لم يعد لهم عمل بعد أن أحرقوا الكتب وأغلقوا دور السينما والمسارح وكافّة الأنشطة الثقافية، وأصبح الأمر مقصورًا على بعض التظاهرات المؤيدة للمتكتم من أنصاره المنافقين ومؤيديه المنتفعين، ولذلك لم يعد أمامهم سوى أن يحصوا أنفاس الناس وأن يتنصتوا على ما يقولون!".

عندما دق الكاتب الروائى "إبراهيم فرغلى" ناقوس الخطر فى روايته "أبناء الجبلاوى" عن الطيور التى حجبت سماء القاهرة وطوابير المنقبات التى انتشرت فى مسيرات صامتة فى كل اتجاه، وتحطيم تمثال نجيب محفوظ والاعتداء على إحدى الورش التى حاولت تصميم تمثال جديد له.

لم نلتفت كعادتنا واتهمنا استشراف المبدع زرقاء اليمامة بالبوار حتى وصلنا لمشهد تخفيف حكم إعدام الشاعر "أشرف فياض" إلى الحبس ثمانى سنوات والجلد ٨٠٠ جلدة، وفى مصر تطول قائمة المحظورات والممنوعات من أول القبض على الراقصات والمطربين بدعاوى كاذبة بإحيائهم حفلات عبادة الشيطان لمجرد عزفهم موسيقى "الميتال" التى لا يفهمها الرقيب ولا سمع عنها يوما.

مرورا بحبس المفكرين ممن استجابوا لدعوات تجديد الخطاب الدينى وعلى رأسهم الباحث الشاب "إسلام البحيرى" الذى يقضى فى السجن حاليا عقوبة الحبس بتهمة ازدراء الأديان لمدة خمسة أعوام، يجاوره الكاتب الشاب "أحمد ناجى" حيث يقضى عقوبة الحبس لمدة عامين بتهمة خدش الحياء، بل ووصلت الملهاة العبثية ذروتها بذبح الشاعر السورى "محمد العانى" ونجله بتهمة الردة"!!

لم يشطح فرغلى فى خياله الذى تحول إلى واقع كابوسى حيث المتكتم الأخ الأكبر يطارد الفكر والخيال، بينما يواصل فرغلى استشرافه فى روايته الأحدث "معبد أنامل الحرير" يصرخ فينا أن ننتبه لكى لا تتحول مدننا إلى نسخ من مدينة "الظلام"، يقول فرغلى فى أحد مقاطع الرواية: "كان ما يحكيه يقترب من الخيال.

الأمر الذى بدأ بمصادرة الكتب وحرقها فى مرحلة أخري، ومنع الأفلام انتقل لاحقا إلى الحفلات والأغاني، ثم إلى المقاهى التى يختلط فيها الشباب ثم انتقلت حمى فريق من المتكتمين الذين كانوا يقومون بحملات مصادرة محال أفلام الفيديو، والمكتبات وإزالة الصور التى تظهر فيها أى فتيات، بدأوا بنقل مصادراتهم من الصور إلى الواقع.

يتجهون إلى أى فتاة ترتدى زيا يعتبرونه مخالفا ويتحرشون بها، وأحيانا يعتقلونها ثم أقاموا حملات تمنع الاختلاط بين الشباب فى المقاهى والشوارع والمجمعات التجارية".

حتى هذا المشهد جرت ترجمته من قبل أن يكتبه فرغلي، فى تلك الواقعة التى جرت قبل عام والخاصة بتحرش بعض طلبة جامعة القاهرة بإحدى زميلاتهم، بل وخرج رئيس الجامعة واتهم الفتاة بأنها السبب نظرا لملابسها المثيرة! بل ووصل الأمر خلال الأيام الماضية، أن الدعوة السلفية فى الإسكندرية تدعو النساء لارتداء النقاب مقابل حلق ذهب هدية، رداً على دعوات منع النقاب فى الجامعات والمستشفيات، ومحاربته على حد قولهم.

وأطلقت الحملة دعوة جديدة للنساء "نقاب يصون أو تنهش عيون" لتشجيعهم على تغطية الوجه ومكافأتهم ماديا على ذلك.

السلفيون سيقيمون مسابقات بين النساء الملتزمات بالنقاب وسوف تتضاعف المكافأة، أو الفوز ببعثة إلى أرض الوهابية لدراسة الدكتوراه فى النقاب.

هذا نداء إلى الفقيرات المعدمات من النساء اللائى يتسولن بالنقاب فى شوارعنا، سارعن وانضممن إلى نقاب السلفية للفوز بالذهب، ولن يمنعكن أحد من التسول به أو القيام بالعمليات الإرهابية كما حدث فى أكثر من واقعة من وقائع التفجيرات التى شهدتها مصر خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أو ما رأيناه من دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعى والتحريض على التحرش بالنساء بحجة ملابسهن.

يخوض فرغلى فى روايته الجديد خطوة فى مشروعه الإبداعى ومغامرة ربما لم يسبقه إليها أحد غيره، حيث أسند الشخصية الرئيسية والبطولة المطلقة -إذا جاز التعبير- إلى الرواية وهنا نعنى بها أن الرواية نفسها تبحث عن كاتبها "رشيد الجوهرى" الذى فقد أو اختطف" ــ بحسب صديقه "قاسم"- والذى يسعى وراء البحث عنه قبل أن يكملها وتتولى عنه مهمة السرد، وهى على ظهر قارب فى عرض البحر ونعرف لاحقا أنه خاص بقراصنة من الصوماليين.

تحكى عن فصول من حياته عن حلمه فى الطيران الذى أجهضه والده، عن أحلامه فى مشاهدة العالم بأرجائه الأربعة، عن تاجر المخطوطات الذى تعرف به، عن رحلته إلى ألمانيا بدعوة صديقته "يوديت" وانتقاله للإقامة معها والعمل هناك، إلى أن يتغير تماما ويتحول إلى صحبة المتشددين الذين التقاهم فى أحد مساجد "شتوتجارت" وكيف تأثر بخطب إمام المسجد التى تبث الأفكار المتطرفة وتدعو للإرهاب والقتل، انتهى الأمر فى النهاية إلى أن تقول له يوديت إنها بالفعل لم تعد قادرة على مواصلة العلاقة، وإنها تشك فى أنه كان يجمل نفسه فى صورة العلمانى المتحرر، بينما هو شخص تقليدى ومحافظ، حيث قالت له: رشيد أنا حقا أكاد أجزم أننى لا أعرفك، لست نفس الشخص الذى عرفته.

ـــ كيف هل ظهرت لى قرون الشياطين؟

ــ راقب نفسك؟ ألا ترى كيف أصبحت ساخطا وغاضبا طوال الوقت، بل ومستفزا؟

ـــ لم يتغير شىء مجرد أننى أصبحت أكثر وعيا بهويتى الحقيقية.

ــ هويتك الحقيقية؟ ماذا تقول؟ وماذا عن المصريين القدماء؟ الذين علمتنى عنهم كل شيء تقريبا منذ رأيتك لأول مرة أمام أحد آثارهم الخالدة حتى اليوم؟ ألا يشكل هؤلاء هويتك الحقيقية؟

ــ لقد اهتدت مصر للدين الحقيقى منذ دخول الإسلام؟

ـــ تقصد غزو العرب لمصر.

ـــ أنا لا أقبل بهذه الإهانة.

ــــ أى إهانة؟ عم تتحدث؟ أنت حتى لم تعد تنصت لما أقول، ولديك أقوال مقلوبة وجاهزة ترددها.

يبنى فرغلى "أنامل معبد الحرير" عبر ثلاثة مستويات متداخلة من السرد، تشكّل كل منها عالماً قائماً بذاته، فى رواية "المتكتم" والتى تحكى قصة مدينة تحت الأرض "المدينة السرية"، يهرب إليها كل من ضاق ذرعاً بالحياة فوق الأرض، حيث "مدينة الظلام" التى سيطر عليها المتكتم وأعوانه.

"وهكذا عدلت منهجي، رحت أمسك الكتاب بروح من الشك والعدائية، وبتربص من يرتاب فى المؤلف، كل كاتب متهم حتى تثبت براءته، وغالبا ليس بريئا، كل فكرة من أفكار الكتاب قد تتضمن الفتنة، أو الانحياز لقيم تتعارض مع قيمنا الأصيلة، وأغلب الكتاب من غير من يؤلفون فى التفاسير والفقه والسيرة، عادة ما يريدون أن يمرروا إلى القراء رسائل إباحية، لا أخلاقية، أو دعوة للانحلال، ونشر الرذيلة فى المجتمع"، أما المدينة السرية حيث المقاومة بنور المعرفة والفن، فيركن فرغلى إلى حفظ ما يحظره ويحرقه المتكتم فى مدينة الظلام، إلى النسخ وتنظيم جيش من النساخ مهمته التدوين الكتابي، بعكس الحيلة التى لجأ إليها القاص الأمريكى "برادبرى" فى روايته "٤٥١ فهرنهايت"، حيث استعان بالحفظ والتلقين الشفاهى ضد محارق الكتب.

وهى لفتة بارعة وربما قصدها فرغلى للرد على الاتهامات التى تكال للعرب بأنهم أهل ثقافة شفاهية تخضع للزيادة أو النقصان وقابلة للمحو والزوال على عكس الثقافة الكتابية والتدوين الأكثر بقاء وتحديا لعوامل الزمن. بل وخصص مبنى للنسخ أطلق عليه "معبد أنامل الحرير"، مخصص لمن يعتبرون رهبانا فى النسخ، يشرف عليه الكاتب الشبح و"إيد الحرير" وهى سيدة فى إشارة إلى عبء حفظ الذاكرة الجمعية التى حملتها النساء، منذ الراوية الأولى "شهرزاد" مرورا بحكايا المهد التى تقصها الأمهات لصغارهن أو الجدات الطيبات لأحفادهن، حتى يصل فرغلى لذروة التأكيد على دور المرأة فى الحضارات الإنسانية، عندما يتم تكوين جيش من الفتيات المتطوعات والكتابة على أجسادهن لأجزاء من الكتب، بحيث يكتب على ظهر وبطن كل فتاة مقطع معين من الكتاب الممنوع، ويخرجن فى طوابير إلى مدينة الظلام، وبعد أن يكتمل جمعهن، يخلعن ملابسهن لتكشف عن المكتوب على أجسادهن ليقرأه سكان المدينة الواقعة تحت سطوة المتكتم وأعوانه.

يتسبب ظهورهن فى صدمة للناس لكنهم سرعان ما يتابعون المنقوش على أجسادهن بل ويساعدهن فى الفرار من حرس المتكتم حينما حاولوا القبض عليهن.

سرعان ما أصبحت الفتيات العاريات حديث مدينة الظلام، وهو ما أدى إلى ظهور كافة الجماعات السرية ممن كانوا يمارسون المحظورات، من تجمعات للقراءة، أو أمسيات شعرية، أو عروض مسرحية سرية، أو شعراء أو فنانين فى الطرقات، يقاومون بأنوار الفن والأدب ظلام فرضه المتكتم.