اكتشاف موقع إيبلا الأثري

القيمة الأثرية والحضارية لموقع إيبلا الأثري كان العنوان الأساسي للتظاهرة التي أقيمت ظهر اليوم في القاعة الشامية بالمتحف الوطني بدمشق احتفاءا بمرور خمسين عاما على اكتشاف هذا الموقع.
وقال ماهز عازر معاون وزير الثقافة إن الاكتشاف الأثري لموقع إيبلا التاريخي سلط الضوء على أهمية الحضارة السورية القديمة ودورها وأثرها وتأثرها بالجوانب الاجتماعية والثقافية مضيفا إن موقع إيبلا الأثري في إدلب تعرض لبعض الأضرار ولكن وعي الشعب السوري والمجتمع ساهم في تقليل هذه الأضرار إلى حدودها الدنيا.
وتحدث الدكتور مأمون عبد الكريم مدير عام المديرية العامة للآثار والمتاحف في كلمته عن قصة اكتشاف هذا الموقع الأثري المهم حيث بدأ البروفيسور الإيطالي باولو ماتييه مكتشف الموقع عمله في تل مرديخ عام 1964 مع عدد من أساتذة وطلاب المعهد نفسه دون توقف متوقعا أن يجد حاضرة مهمة في هذا التل نظرا لحجمه الكبير وموقعه الاستراتيجي دون وجود أي دليل على اسم التل أو من سكنه سوى جزء من حوض نذري منحوت بأشكال نافرة ظهر إلى سطح الأرض بطريق الصدفة عام 1955.
وأضاف عبد الكريم إن البعثة التي واصلت تنقيباتها حتى عام 1975 عثرت على حوالي 17 ألف رقيم طيني بعضها كامل وبعضها محطم ضمن غرفة صغيرة في القصر الملكي العائد للألف الثالث قبل الميلاد وكان هذا الكشف اكبر حدث في تاريخ الاكتشافات الأثرية لكونها الوثائق الكتابية الأولى في سورية في الألف الثالث قبل الميلاد.
وأكد عبد الكريم أن المعلومات والوثائق التاريخية والكتابية التي قدمتها أعمال البروفيسور ماتييه على الأرض السورية في إيبلا قدمت الوجه الحضاري لهذه الأرض خلال الألف الثاني والثالث قبل الميلاد وغير المعتقد التاريخي الخاطئ بأن سورية خلال هذا التاريخ كانت نقطة عبور أو تواصل أو صدام بين الحضارات الكبرى التي كانت معروفة في ذلك الوقت كما بينت أن سورية كانت ذات طابع خاص ومتميز ومستقل في الأصالة والإبداع الفكري والحضاري.
وتحدث الدكتور أحمد طرقجي مدير التنقيب والدراسات الأثرية في المديرية في محاضرة تحت عنوان “بعثة التنقيب في تل مرديخ خلال خمسون عاما” عن أهمية الاكتشافات الأثرية التي جرت في تلك المنطقة عن طريق البعثات مبينا أن عمليات الكشف والتنقيب في إيبلا استمرت بشكل متواصل في شتى أرجاء الموقع وكانت النتائج والدراسات مذهلة أسفرت عن اكتشاف الحي الملكي “الاكروبول” الذي يضم القصور الملكية الضخمة وبعض المعابد وأهمها معبد عشتار المجدد في الألف الثاني قبل الميلاد والمراكز الإدارية التابعة للقصر الملكي وأسوار المدينة الضخمة الترابية المكسوة بالحجارة التي يبلغ سمكها عند القاعدة نحو 60 متراً.
وعبر السكايب تحدث من إيطاليا البروفيسور ماتييه مكتشف الموقع الأثري مشيرا إلى أهمية التنقيبات التي حدثت بين عامي 1964-1975م عندما عثر في حجرة من حجرات القصر الملكي العائد للألف الثالث قبل الميلاد على مكتبة ضخمة تضم السجلات الملكية مكونة من 16 ألف رقيم مسماري أو يزيد منها ألفا رقيم سليم وستة آلاف رقيم ناقص وثمانية آلاف كسرة.
ويوضح ماتييه أن هذه الرقيمات جاءت لتقلب المعادلة وتوءكد بما لا يقبل الشك أن سورية كانت في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد منطقة ثقل حضاري وفكري وثقافي واقتصادي وسياسي لا يقل مكانة عن سواه موضحا أن ترجمات نصوص الموقع المسمارية تشير إلى أن إيبلا كانت مركزاً لقوة سياسية كبرى هيمنت على ممالك أخرى في الهلال الخصيب كماري “تل الحريري” على الفرات الأوسط وحلب “يمحاض-حبابو-أرمانو” وكانت قوتها السياسية مستمدة من حيوية اقتصادها وتجارها الذين جابوا المنطقة من الأناضول شمالاً إلى فلسطين جنوباً ومن بلاد الرافدين شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً كما تذكر النصوص التجارية الإبلائية أسماء مدن قديمة وبلاد كثيرة جداً.
بينما عرض الدكتور أحمد ديب مدير شؤون المتاحف لطقوس الدفن في إيبلا من خلال الرقم المسمارية عبر أشكال المدافن التي تتنوع بين المدافن الفردية التي كانت تقسم بين مدافن حجرة ومدافن جرة “مخصصة للأطفال” إضافة إلى مدافن جماعية ملكية مشيرا إلى أن أرشيف إيبلا تضمن معلومات مهمة عن طقوس الدفن ووجود مدافن في المنطقة.
فيما تطرق عبد السلام ميداني مدير تقانة المعلومات في المديرية العامة للآثار والمتاحف الى مشروع التوثيق الالكتروني للآثار السورية الذي بدأ بمشروع التوثيق الالكتروني لدمشق القديمة عبر مسح ميداني للواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومسح إنشائي للمدينة القديمة وعلاقتها بالجوار المباشر باستخدام تقنية الفوتوغرامتري لأهم ثلاثين موقعا أثريا في المدينة باستخدام محطة الرصد المتكاملة مع تصوير فوتوغرافي لرسم الواجهات والمقاطع والمساقط وربطها مع بيئة نظام المعلومات الجغرافي فضلا عن إنجاز تصميم وبناء نظام معلومات جغرافي أثري متكامل لإدارة المواقع الأثرية.
ولفت إلى أن المديرية انتقلت بعد هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى بنت من خلالها قاعدة بيانات مركزية للمتاحف السورية والمواقع الأثرية للحصول على معلومات كاملة حولها.
وتحدث الدكتور والباحث محمد محفل عن تميز العمارة في إيبلا بتطورها وحملها لهوية خاصة تميز الحضارة السورية القديمة والتي كشفت وجود مدرسة سورية بفن البناء لا علاقة لها بالمدرسة الرافدية ولا المصرية لافتا إلى الدور المحوري الذي لعبته المدينة في تاريخ سورية القديمة حيث كشفت الرقم المسمارية التي عثر عليها عن تطورها في مجالات الحرف المتطورة في الحدادة إضافة إلى تطورها في مجال علوم التخطيط.
وختم اليوم الأول للتظاهرة بمحاضرة للآثاري فجر محمد أمين متحف إدلب بعنوان “إيبلا خلال الأزمة” تحدث خلالها عن الواقع الراهن للمدينة الأثرية وما تعانيه من تعد وانتهاك وتخريب.
وأشار محمد إلى أن الموقع الأثري أصبح مهجورا وموحشا اجتاحته مخاطر كبيرة دمرت الكثير من معالمه جزئيا وخربت بعض سوياته الأثرية واستباحت حرمته سرقة ونهبا وتخريبا لافتا إلى استباحة التنظيمات الإرهابية للمباني التخديمية الحديثة الواقعة شمال وجنوب الموقع والمرافق الخدمية الموجودة داخله وسرقة محتوياتها ولم تسلم من أفعالهم الأسقف الخشبية والعضائد المستخدمة في أعمال الترميم والتأهيل للمباني الأثرية من السرقة والنهب.
وبين أن “عمليات الحفر العشوائي استمرت قبل عام في الموقع والتخريب ونهب ما يمكن العثور عليه من لقى” مشيرا إلى انحسار هذه العمليات في الوقت الراهن بسبب الدور الإيجابي للمجتمع المحلي وخاصة المثقفين في قرية تل مرديخ والخيرين من أبنائها معتبرا أنه رغم “ما حل بموقع إيبلا من تخريب واستباحة نستطيع القول إن الوضع في الموقع ضمن المعقول حاليا بعد توقف أعمال الحفر العشوائي”.