وكالة الفضاء الأميركية ناسا

تستعد وكالة "ناسا" للانطلاق جوا على سطح كوكب آخر في إطار مهمتها التالية المتجهة إلى المريخ، التي من المقرر أن تنطلق هذا الصيف، ستحاول وكالة الفضاء فعل أمر لم يسبق إنجازه من قبل قط: الدفع بطائرة مروحية للتحليق في الغلاف الجوي للمريخ.

وحال نجاح هذه المحاولة، فإن المروحية الصغيرة التي تحمل اسم «إنجنيويتي» ستفتح سبيلاً جديداً إلى المستقبل أمام المستكشفين الآليين المستقبليين لإلقاء نظرة من الجو على المريخ وكواكب أخرى داخل النظام الشمسي.

وتبدو هذه اللحظة شبيهة للغاية باللحظة التاريخية الشهيرة التي شهدت نجاح تجربة الأخوين رايت في التحليق، لكن على سطح كوكب آخر، حسبما ذكرت ميمي أونغ، مديرة مشروع «مروحيات المريخ» داخل مختبر الدفع النفاث التابع لـ«ناسا» على مدار السنوات الست الماضية. ولا يعتبر التحليق في فضاء المريخ بالأمر الهين، ذلك أنه لا يوجد قدر كافٍ من الهواء هناك كي تدفع المروحيات ضده وتبدأ في الارتفاع. على سطح الكوكب، تبلغ كثافة الغلاف الجوي للكوكب 1-100 فقط من غلاف الأرض.

ورغم أن الجاذبية الأقل التي تعادل ثلث الجاذبية التي يشعر بها المرء على الأرض، تعين على البقاء محلقاً في الهواء، فإن الانطلاق من على سطح المريخ يعادل الطيران على ارتفاع 100.000 قدم على الأرض. ولم يسبق لأي مروحية على سطح الأرض التحليق على مثل هذا الارتفاع، ويبلغ هذا أكثر عن ضعف الارتفاع الذي تحلق عنده في العادة الطائرات. ومن المقرر أن تنتقل المروحية إلى المريخ بالاعتماد على «بيرسيفيرانس»، التي ستصبح الطوافة الروبوتية الخامسة التي ترسلها «ناسا» هناك.

ومن المقرر أن تنطلق المهمة في 20 يوليو (تموز)، في واحدة من 3 مهام تستهدف المريخ هذا العام. وخلال مؤتمر صحافي عقد الأسبوع الماضي لمراجعة مهمة «بيرسيفيرانس»، أكد جيم بيردنستاين، المسؤول الإداري بـ«ناسا»، في حديثه عن «إنجنيويتي»، أنه: «سأقول لكم أمراً، أكثر ما أشعر نحوه بالإثارة باعتباري مسؤولا إداريا في (ناسا) الاستعداد لرؤية مروحية تحلق في سماء عالم آخر».

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه حتى عام 1997، كانت جميع المركبات التي أرسلت إلى سطح المريخ مركبات إنزال ثابتة، لكن في 1997 تضمنت مهمة «باثفايندر» شيئا كان ثورياً في تاريخ «ناسا»: روبوت مزود بعجلات.

وكانت تلك الطوافة، التي حملت اسم «سوجورنر»، في حجم خزانة ملفات صغيرة تقريباً. وأعقب نجاح هذه المهمة إرسال طوافتين كل واحدة منهما في حجم عربة ملعب غولف، «سبيريت» و«أوبورتيونيتي»، واللتين هبطتا على سطح المريخ في 2004. وفي 2012، هبطت طوافة «كيوريوسيتي» على المريخ وكانت بحجم سيارة تقريباً. من جهتها، تعتبر «إنجنيويتي» في جوهرها المكافئ الجوي لـ«سوجورنر»، بمعنى أنها تشكل استعراضا لتكنولوجيا جديدة يمكن استخدامها بتوسع أكبر خلال مهام تالية.

ويكافئ حجم هيكل «إنجنيويتي» حجم كرة لينة صغيرة تشبه كرة البيسبول، وتخرج منها أربعة أرجل طويلة ورفيعة. وتوجد مجموعتان من الشفرات، يبلغ طول كل منها حوالي 4 أقدام من الطرف إلى الطرف، تدوران في اتجاهين مختلفين. وتبلغ زنة المركبة 4 باوند فقط ويبلغ ارتفاعها حوالي 1.5 قدم.

يذكر أن بوب بالارام، المهندس الأول المسؤول عن المروحية، قد بدأ العمل مع بعض الزملاء على تنفيذ الفكرة في التسعينيات. وقال عن ذلك: «لم نحقق شيئاً يذكر، في واقع الأمر، وإنما أجرينا بعض الاختبارات البسيطة. وبعد ذلك، جرى تنحية الفكرة برمتها جانباً حتى ست أو سبع سنوات ماضية».

وقال إن تشارلز إلايتشي، الذي كان يتقلد آنذاك منصب مدير «مختبر الدفع النفاث»، أصبح مهتماً بالفكرة ووفر المال اللازم لإجراء مزيد من الدراسات بهذا الشأن. وقال: «كان لذلك الفضل في دفعنا نحو العمل». وبطبيعة الحال، شكل السعي وراء إنجاز أمر لم يسبق فعله من قبل تحدياً هندسياً راق لأونغ، التي تولت منصب مدير المشروع منذ منتصف عام 2014.

وقالت أونغ، التي كانت نائب مدير قسم الأنظمة الذاتية داخل «مختبر الدفاع النفاث» قبل انضمامها إلى مشروع المريخ: «منذ حوالي 20 عاماً، لم يكن هذا الأمر يبدو ممكناً بسبب اعتبارات رياضية»، إلا أن عدداً من التطورات التكنولوجية، مثل تصغير الإلكترونيات وإنتاج بطاريات قادرة على تخزين قدر أكبر من الطاقة ومواد من الممكن تشكيلها في صورة شفرات خفيفة الوزن، جعلت أخيراً من الممكن تحويل حلم بناء مركبات قادرة على الطيران على سطح المريخ إلى إمكانية تكنولوجية، حسبما شرحت أونغ، إلا أن تحول الإمكانية إلى مروحية عاملة بالفعل استغرق سنوات من التجربة والخطأ.

وبحلول عام 2014، كان المهندسون نجحوا في بناء نموذج أولي صغير. ووضعت المروحية الصغيرة داخل غرفة جرى سحب معظم الهواء منها، في محاكاة إلى كثافة الغلاف الجوي المريخي. ونظراً لأنهم لم يكونوا قد أنجزوا حينها الـ«سوفت وير» اللازم كي تتمكن المروحية من الطيران بذاتها، حاول عضو من الفريق توجيه حركتها من خلال عصا تحكم.

ومع بدء دوران الشفرات، ارتفعت المروحية عن الأرض، وسرعان ما خرجت عن السيطرة. وبذلك، تحققت مسألة الارتفاع عن السطح لكن دون سيطرة. وعن ذلك، شرح هارفارد غريب، المهندس الذي قاد العمل بمجال الديناميكيات الهوائية وتحقيق طيران خاضع للسيطرة: «في ذلك الوقت، تحقق لنا ما كنا نسعى خلفه، وهو التأكد من القدرة على الانطلاق والارتفاع من على سطح الأرض. ولهذا، فإنه من تلك الزاوية كانت التجربة ناجحة، لكن كان من الواضح أنه لا تزال هناك حاجة لبذل كثير من المجهود لاستيعاب كيف يتصرف ذلك الشيء».

وقال بالارام وغريب إن واحدة من المشكلات القائمة كانت أن الشفرات كانت ترتد صعوداً وهبوطاً مع دورانها من 2.000 إلى 3.000 لفة بالدقيقة. على الأرض، يؤدي ضغط الهواء في مواجهة الشفرات إلى تقليص الارتداد، لكن في الغلاف الجزي المريخي الهزيل، تخلق هذه الارتدادات حالة من عدم الاستقرار تجعل من الصعب السيطرة على حركة المروحية.
واتضح أن الحل جعل الشفرات أكثر صلابة بشكل طفيف، لكن هذا أضاف إليها مزيداً من الوزن.

في مايو (أيار) 2016، كان النموذج الأولي التالي جاهزاً. وداخل الغرفة ذاتها التي تحاكي الغلاف الجوي على سطح المريخ، ارتفعت المروحية، ثم حلقت بثبات وهبطت بسلاسة. وللمرة الأولى، طار نموذج أولي لمروحية تحت السيطرة في ظل ظروف تحاكي الغلاف الجوي للمريخ، وإن ظلت مرتبطة بمصدر خارجي للطاقة وجهاز كومبيوتر.

وأصبح التصميم الكامل جاهزاً في يناير (كانون الثاني) 2018، بما في ذلك بطاريات ومعالج «كوالكوم سنابدراغون» يكافئ تماماً ما يوجد داخل الهواتف المحمولة، وأنظمة اتصالات ومجسات. ومن أجل محاكاة قوة جاذبية المريخ، تولت بكرة سحب المروحية لأعلى للعمل كثقل موازن لجاذبية الأرض.

وجرى تقليص كثافة الهواء في الغرفة من جديد، لكن هذه المرة بدلاً عن ترك بعض من هواء الأرض، جرى ضخ بعض من ثاني أكسيد الكربون، المكون الأساسي لهواء المريخ. وبالفعل، ارتفعت المروحية وحلقت.
وبعد نصف عام، أعطت «ناسا» الضوء الأخضر لإضافة المروحية إلى مهمة الطوافة التالية التي ستطلقها الوكالة إلى المريخ، «بيرسيفيرانس». وجرى إلحاق «إنجنيويتي» بقلب «بيرسيفيرانس»، التي تخوض الاستعدادات الأخيرة للانطلاق من كيب كانافيرال في فلوريدا.

وتعكف أونغ والفريق المعاون لها على مراجعة ما سيفعلونه بمجرد هبوط «إنجنيويتي» على سطح المريخ. ومع غلق الجزء الأكبر من مختبر الدفع النفاث بسبب تفشي وباء «كورونا» المستجد، جرى إنجاز كل هذه الأعمال عبر مؤتمرات عن بعد، مع عمل أعضاء الفريق من المنزل، وبعد نحو شهرين من هبوط «بيرسيفيرانس» على المريخ في فبراير (شباط)، ستبدأ اختبارات «إنجنيويتي». وبعد إيجاد الطوافة مساحة مسطحة مناسبة، ستسقط المروحية على الأرض، ثم تتحرك لمسافة 100 ياردة على الأقل. وقالت أونغ: «لن تعود المروحية أبداً إلى الطوافة».

وعلى مدار 30 يوماً، ستنفذ المروحية ثلاثة رحلات جوية، لكنها ستقضي جزءاً كبيراً من الوقت على الأرض في انتظار إعادة شحن بطارياتها باستخدام ألواح شمسية. وستكون الطلعة الجوية الأولى عبارة عن الارتفاع لبضعة أقدام والتحليق لمدة تصل إلى 30 ثانية، ثم الهبوط. أما الطلعات الجوية التالية فستكون أطول وأعلى ولمسافات أبعد.

وفي الرحلة الجوية الخامسة، إذا سار كل شيء على ما يرام، سترتفع المروحية إلى 15 قدماً تقريباً وتطير لمسافة 500 قدم تقريباً، ثم تعود إلى نقطة البداية. وتحمل المروحية زوج من الكاميرات، واحدة بالأبيض والأسود وجهها متجه إلى الأسفل لتحديد موقعها، والثانية بالألوان لنقل صور من المشهد العام على سطح المريخ. وتستغرق الرحلة 90 ثانية وبمجرد إنجازها لطلعاتها، ستترك «إنجنيويتي» في آخر موقع هبوط لها، بينما تنطلق «بيرسيفيرانس» لاستكمال باقي مهمتها.

قد يهمك أيضا:   

وكالة "ناسا" تموّل أبحاثًا للعثور على "حياة ذكية" في الفضاء على مدار عامين

كاثي لودرز أول رئيسة لرحلات الفضاء في وكالة "ناسا" الأميركية