الطبيبة الأنثى الوحيدة في جبل الموت العراقي، غنزة علي

كشفت الطبيبة الأنثى الوحيدة في جبل الموت العراقي، غنزة علي، البالغة من العمر 39 عامًا، عن تفاصيل حياتها في علاج الأيزيديين النازحين وكيف يمكن أن تكون الحياة على أعتاب تنظيم "داعش".

ويعلو يوما بعد يوم هدير طائرات التحالف التي يمكن سماعها في سماء محافظة نينوي شمال العراق، وأسفل منها في مدينة سينجار حيث يخوض "داعش" حربًا ضارية ضد كل من لا يتبنى آراءه المتطرفة، وعلى مرمى حجر واحد من المدينة المحتلة توجد غنزة علي مساعدة الطبيب التي تتعامل مع الخسائر العسكرية، مثل آلاف المدنيين النازحين بسبب الصراع.

ولكونها الفتاة الوحيدة الطبيبة في جبل سينجار أو كما يطلق عليه جبل الموت العراقي، فإن غنزة تعتبر كنسمة الهواء المنعشة للجنود الأكراد العائدين أخيرًا من المعارك، حيث تتحرك الطبيبة الوحيدة بين الجنود الذكور بشكل طبيعي وبمنتهى الثقة.

وتقول غنزة: "أنا المرأة الوحيدة هنا، ولكنهم يحترمونني"، موضحة أنها تجلس على الفراش داخل الكوخ الصغير تلبية لنداء الوطن، وتتكون غرفة نومها من سرير واحد وتلفزيون وخزانة الصلب التي تستخدمها لتخزين بندقيتها، بالإضافة إلى صورة معلقة على الحائط تجمع بينها وبين رئيس إقليم كردستان مسعود بارازاني.  

وتعتبر الطبيبة الشابة عضوًا في الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يترأسه برزاني، وهي جماعة سياسية معروفة بقوة قيادتها وميولها الاستبدادية، وتوضح غنزة أن هذا العمل هو أبسط الأشياء التي يمكن أن تقدمها لبرازاني، كما أن زيها العسكري مزين بالدبابيس وبقع الفليكرو ووصور الرئيس ذو الشاربين والعلم الكردستاني، ورغم أن ولاءها للزعيم الكردستاني، فإن جذورها تنتمي إلى غرب العراق في سورية، وتقول الطبيبة الكردية: "ما يصدمني حقًا هو رؤية معاناة الناس الذين يعانون من نقص الطعام والماء والملابس".

ولدت غنزة وتربت في مدينة دريك السورية، وغادرت والديها واتجهت للعمل في العراق في آذار/ مارس 2014، قبل ثلاثة أشهر فقط من سقوط الموصل في يد داعش. ولكن كان ذلك بعد استيلاء المتمردين على سنجار في بدايات آب/ أغسطس 2014، وذبح وتشريد مئات الآلاف من الأيزيديين، مما جعل غنزة تأخذ خطوتها الجريئة وتستقر في أعلى قمة الجبل المعزول.

وفي 15 آب أثناء محاصرة مقاتلي داعش للجبل، انتقلت غنزة بطائرة مروحية إلى القاعدة العسكرية، وبدأت في العمل مباشرة تحت إشراف الدكتور حوار.

وأوضحت أن صدمتها كانت كبيرة برؤية المزيد من المواطنين يعانون نقص الطعام والماء والملابس، مشيرة إلى أن 50 ألف يزيدي تسلقوا الجبل في صيف 2014 الحارق هربًا من أيدي داعش.

واليوم يعيش حوالي 8.750 أيزيديا في الظروف الحياتية الصعبة والفقر فوق جبل سنجار، والعديد منهم يحتاجون للعناية الطبية، وتقيم غنزة في عيادتها وهي عبارة عن كوخ مجهز بالأدوية والأجهزة الطبية التي تبرعت بها وزارة الصحة الكردية ومنظمة رايز المحلية.

 وكانت امرأة مسنة في داخل العيادة ترتدي ثوبًا أبيض وتجلس بجانب غنزة وتشرح لها أنها تعاني من آلام المفاصل وتمشي بصعوبة، وقالت المسنة لغنزة: "لا نريدك أن تتزوجي لتربية أطفال وتلقي الأوامر من رجل، ومنذ جئتي إلى هنا نريدك أن تبقي"، كلماتها جعلت غنزة تضحك وتقول بابتسامة: "إنهم لا يريدونني أن أتزوج وأتركهم".

ورفضت غنزة أن تتزوج احتجاجًا على السلطة الأبوية التي تعيش في ظلها، واختارت أن تكرس حياتها لمهنتها، قائلة: "لا أريد أن أتزوج وأربي أطفال وتتلقى الأوامر من زوجي"، مشيرة إلى أن أسرتها تتفهم موقفها وتحترمه.

وعلى الرغم من أنها لا تريد أطفالًا لنفسها، فإنها تعتني بأكثر من 100 سيدة حامل ولا تحصل منهن على أجر بعد الولادة، حتى أن الكثير منهن أسموا أطفالهن على اسمها.

وربما تكون المخاطر وعدم الأمان في مناطق الحرب لعبت دورًا في إقناع غنزة برفض فكرة الزواج، فهي تقول إنها رأت الجنود الذين تزوجوا منذ شهر وجاءوا هنا ليموتوا، وهكذا تعاملت غنزة مع خسائر الحرب رغم أنه لم يكن لديها أي خبرة بذلك قبل التحرك للجبل، وبالفعل قبل لقائي معها بيوم واحد حضر إلى عيادتها 6 جنود مصابون بجروح عميقة وأحدهم فقد أصابعه، مضيفة: "أكون مرعوبة عند سماع المناوشات، وأخشى أن يصل الدواعش للجبل".

وأحيانًا تشرع غنزة في النزول من الجبل لتقدم الاستشارات والنصائح للجنود، وعدد مرعب من الجنود الأكراد لم يتلقوا تدريبًا على الإسعافات الأولية، وغير معتادين على الأدوات التي قد تنقذ الحياة مثل أدوات وقف النزيف.

وفي أوقات عديدة تكون معدات الفريق الطبي المحدودة سببًا في عدم القدرة على التعامل مع بعض الإصابات مثل فقدان الأطراف، مما يجبرهم على السفر لمدن الشمال مثل دهوك وزاخو ويتعرضون للخطر بسبب الإصابة. 

وأثناء تناول وجبة من الأرز والدجاج، اعترفت غنزة بأنها مازالت خائفة عند سماع الاشتباكات: "مرعوبة لو تمكن الدواعش من الوصول للجبل".

وتأخذ غنزة وزملاؤها استراحة بسيطة قبل النزول إلى طريق الجبل المتعرج، لمتابعة مريض آخر، وكانت مريضة مسنة تصطحبها أسرتها. إن الإجازة ترف اعتادت غنزة أن تستغني عنه وفي الجبل لها أجازتين فقط في العام كله، فحتى في أيام الأعياد الإسلامية كانت ملزمة برعاية 75 مريضًا.

وتابعت: "أبتسم حتى لو كان الموقف صعبا، وأرتدي الثياب وأضع الماكياج ليرى العدو أنه مازالت توجد حياة هنا، وكنت ارتديت ملابسي المدنية، ولكن وقعت إصابات فاضطررت إلى تغييرها والنزول إلى العمل".

وتعترف غنزة بأنها تمل أحيانًا من ارتداء نفس الزي العسكري كل يوم، ومع ذلك فإنها لم تفشل يومًا في تسوية زيها، موضحة: "أعتني بنفسي دائمًا وأبتسم مهما كان الموقف صعبا، وأضع الماكياج ليرى العدو أنه مازالت توجد حياة هنا"، إنها تضع الكحل الأسود وأحمر الخدود، والحلي الذهبية التي أرسلتها لها أختها من ألمانيا. 

منذ أن نزلت غنزة إلى قمة الجبل بطائرة عراقية مروحية قديمة واضطرت لمواجهة الواقع واستقرت هناك، وجدت لنفسها مجتمعا وعائلة يزيدية في الجبل، فهي تؤكد أنها لم تشعر بالوحدة أبدًا، واليزيديين رائعين، ومنفتحين يتسمون بالود، كما أن البشمرجة (الجنود الأكراد) دعموها، وعندما سألت غنزة .. هل تود الالتحاق بموجة من اللاجئين الآن إلى أوروبا؟ هزت رأسها نافيه، موضحة أنها أعطيت الفرصة للذهاب هناك، ولكنها رفضتها، قائلة: "لا أريد الذهاب إلى أوروبا، أريد فقط أن أبقى لخدمة وطني".