الحديث عن النكبة بعد 67 عاما موجع للقلب، للراوي وللمستمع تذرف عيون من اكتوى بنارها، وتحرك بها المشاعر والذكريات والشجون، ذكريات تحمل قصة اقتلاعهم من أرضهم، وتحويلهم إلى لاجئين في شتات الأرض، حملوا مفاتيح بيوتهم على أمل العودة القريبة، واحتفظوا بها ليرووا لأحفادهم حكاية أرض لن تنسى على مر الزمان.
الحاج أبو محمود حسنية (78 عاما) من قرية كدنا قضاء الخليل يروي قصة تهجير قرى: تل الصافي، وزكريا، وعجور، ومغلس، ودير الدبان، ورعنا، وبيت جبرين، وخربة أم برج، ودير نخاس، وذكرين، والقبيبة، وبيت نتيف، والدوايمة، وزيتا، وكدنا.
وقال إن قريته كدنا، تعتبر منطقة أثرية رومانية، كما تلك القرى المجاورة لها، وزراعية غنية ببياراتها وبساتينها ومزارعها ووديانها.
وأضاف 'لا يحق إلى من لا يملك الأرض بيع الأرض ويقصد الإنجليز لليهود لتصفية حسابات بينهم. وتابع: كان لليهود من يسلحهم في هذه الحرب، ونحن لا نملك السلاح، وتركوا لنا الخشب لنقاتل به.
وأشار إلى سياسة الاستعمار الإنجليزي في تلك الفترة المتمثلة بالتضييق على المواطنين الفلسطينيين، مثل إغراق البلاد بالقمح المستورد في سنين الخصاب، وبيعه بأثمان غالية في سنوات المحل، لدفع المواطنين لبيع الأرض من أجل لقمة العيش.
كما أشار إلى الضعف العربي، والخيانة الدولية لحقوق الفلسطينيين، وقال: كم عاما ونحن نستغيث.. ولكن ما من مجيب.
وتابع الحاج حسنية: خرجنا من بلادنا في الهدنة.. وإسرائيل استغلت الموقف، لقد تم ترحيل 14 قرية من حولنا في منطقة الخليل دفعة واحدة.
وقال 'الجيش المصري انسحب من الجهة التي كنا فيها. بعض العائلات كانت تملك سلاحا بسيطا، تم إخراج الأطفال والنساء وكبار السن لخارج القرية، وبقي المقاومون، والإشاعات عن خطف النساء واغتصابهن ساعدت بشكل كبير في خروج الناس لحماية العرض، فهاجر الناس إلى أن تهدأ ألأوضاع'.
وأضاف 'تركنا طيور الحمام والدجاج، ووضعنا لها الماء والقمح إلى أن نرجع.. ونادت هيئة الأمم برجوع اللاجئين وإلى اليوم لم نرجع'.
وقال متنهدا: رحلة الهجرة كانت عبر 20 مرحلة إلى أن استقرينا عام 1954 في مخيم العروب شمال الخليل، وما زلنا نعاني منذ تلك الأيام.
وأشار إلى التشرد الذي ضرب العائلة وشتتها، وقال: لم أستطع فراق كدنا. كنت كل يوم أتسلل إليها، أشرب من مائها، وآكل من بياراتها، وأزور مقابر العائلة. قبر أمي وأبي وجدي.. كل العائلة. كان عندنا 21 رأس بقر، و20 دونم أرض، بالإضافة إلى خلايا النحل، والأغنام، والبيوت.
وقال حسنية بحسرة: آه لو ارجع إلى بلدي. السنين لا تضيع حقا. نحن الكنعانيون قبل اليهود في هذه البلاد، وجاء الرومان ورحلوا كما غيرهم ممن سكنوا البلاد،ولكن نحن الأصل، الفلسطيني لا ينسى أبدا بلده، وسوف ترجع الأرض بأبنائنا وأبناء أبنائنا. الأرض في عقلنا وتفكيرنا.. الأرض هي عرضنا ولن نفرط بها أو نتنازل عنها، فلترجع يا ليبرمان إلى روسيا. هذه ليست أرضك...
وحول مقولة أن الكبار يموتون والصغار ينسون، قال: الأرض للقوي وهي مجبولة بدم الشهداء والصحابة، وهي مقدسة ولن نفرط بها ما حيينا.
من جانبها، قالت الحاجة أم عبد الله (90 عاما) إنها خرجت من قرية عراق المنشية شمال شرق مدينة غزة. كنا نملك أرضا، وجرون القمح، وبيوتنا كانت طبقات. خرجنا في فترة الهدنة لبضعة أيام على أمل العودة.
وتابعت: 'خرجت وابني على يدي كان عمره 40 يوما.. لم استطع أن أرضعه من شدة الصدمة والحزن على ترك البلاد. أصبحنا لاجئين مشتتين في أصقاع المعمورة، نعيش على كرت المؤن'.
وأضافت: عندما دخل اليهود البلاد قتلوا شابين على نبع الماء بالقرية، وبلغوا المخاتير بأمر خروجنا من البلاد. كانت قرية عراق المنشية آخر القرى التي سقطت بيد العصابات الصهيونية بعد عام كامل من النكبة، وظلت صامدة حتى عام 1949 تحت القصف والدمار بصمود المقاومين فيها، والجيش المصري والسوداني، وتم تشريد أهلها البالغ عددهم حوالي 2300 نسمة، أقام الصهاينة على أنقاضها مستعمرة 'كريات غات'.
وتابعت أم عبد الله: حمل سكان القرية أموالهم وحلالهم وتركوا القمح والغلة في الأرض، إلى أن تهدأ الحرب. لو كنا نعرف أننا لا نستطيع العودة إليها لما تركناها حتى لو متنا فيها.
وعن زيارتها للقرية التي هجّرت منها، قالت أم عبد الله: قبل 15 عاما ذهبت إلى القرية. لم يدع اليهود شيئا على حاله، ولكن بيارات العائلات ما زالت على حالها، وهناك دلالات للتنقيب عن الآثار، وأخرى بنيت عليها منطقة صناعية، كما زرعوا الوديان بأصناف عديدة من الفواكه، وعرفت جميع المناطق في القرية وكأنني لم أغادرها طيلة تلك الفترة. هنا بيارة علي حسين، وأخرى لعائلة الطيطي.. بجوارها ارض أعمامي ومنطقة العرين الجبل، وجرن الخربة.
وقالت: 'اقتربت من بيارة أبي ونزلت لأقطف البرتقال. اقترب مني أحد المستوطنين الذين احتلوا أرضنا وبيوتنا، وقال: ليش بقطف برتقال؟ قلت : هذا برتقال أبوي، هو الذي زرعه. فقال هذا برتقال أبوك؟ 'عمره أبوك ما بوخذه'. هذه بيارتي. فقلت له سبحان الذي يغير ولا يتغير.. لا بد أن يتغير الحال وترجع الدار إلى أصحابها.
قطفت أم عبد الله من البرتقال والليمون لصديقاتها في المخيم اللواتي اشتقن إلى رائحة برتقال البلاد.
وتقول: كيف لها أن ننسى هذه البلاد التي كانت رمز عزتهم ومصدر رزقهم؟ وكيف لها أن تنسى ذكريات الأحبة والثرى الذي يحتضن الشهداء والأجداد.
أرسل تعليقك